من أمن الغاز إلى أمن إسرائيل، ومن تعزيز التعاون الاقتصادي إلى تعزيز التطبيع، ومرورا بخرائط التحالفات والتنافس الإقليمي، يمكن فهم أهداف ونتائج منتدى الغاز الذي أعلن عن إطلاقه أخيرا في القاهرة، فالمنتدى تمديد لنهج الشرق الأوسط الكبير، في تغير خريطة العلاقات السياسية عبر الاقتصاد ودمج إسرائيل في المنطقة، عبر تعاون يراه المستفيدون منه ضروريا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها دول البحر المتوسط، خاصة اليونان ومصر والأردن.
كانت إسرائيل تحتل المركز الـ55 ما بين الدول المنتجة للغاز عام 2006، وشغلت المركز الـ44 من الاحتياطات عام 2015 (حسب بيانات المخابرات الأميركية)، واستطاعت تطوير قدرتها في ما بعد، لتصبح من أبرز دول الشرق الأوسط المنتجة للغاز، ليس فقط استنادا إلى قدرتها التكنولوجية وشبكة المصالح مع الشركات الدولية، لكن أيضا عن طريق نهب الثروة البترولية لعدد من دول المتوسط، فعبر الاحتلال تستغل المناطق الساحلية لفلسطين، وتحاول استغلال المنطقة المقابلة للبنان.
طورت دولة الاحتلال قدراتها في عملية الإنتاج والاستخراج والتوزيع، وسعت للتعاون مع عدة دول لذلك، منها مصر، في ما يخص عملية التكرير والإسالة عبر ما تملكه من مراكز وشبكات تكرير، وكذلك ما ارتبط بالتسويق والبيع، فالغاز الإسرائيلي سيوجَّه جزء منه لمصر، وفق الاتفاقية التي عقدت في فبراير/ شباط 2018 وقيمتها 15 مليار دولار.
وتستفيد إسرائيل من مصر بوصفها سوقا استهلاكيا كبيرا (في المركز 22 للدول الأكثر استهلاكا عام 2003)، وكذلك في التسويق سينقل الغاز الإسرائيلي لأسواق أخرى عبر خطوط الغاز بمصر والأردن، والأخيرة وقعت أيضا اتفاقية لشراء الغاز من إسرائيل في سبتمبر/ أيلول 2016 بقيمة 10 مليارات دولار.
ستعظم إسرائيل استفادتها الاقتصادية عبر التعاون الآخذ في التصاعد مع دول شرق المتوسط، وستوفر كلفة ضخمة عبر تكرير وإسالة الغاز الإسرائيلي بالمنشآت المصرية، تنخفض كلفتها لأسباب عديدة، أبرزها ما لحق بالجنيه المصري من انخفاض بعد قرار التعويم، بالإضافة إلى انخفاض الأجور نسبيا في قطاع البترول المصري مقارنة بدول أخرى.
وهذا في محصلته النهائية يعني تراكم ثروات مالية ضخمة لإسرائيل وللشركات العالمية المتعاونة معها، وهو ما يكشف هنا بحسابات الاقتصاد السياسي عن جزء من عملية النهب التي تجري بمعاونة شركات طاقة عالمية ومؤسسات دولية تشكل رابطا ما بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية.
وأعلن البنك الدولي، في يوليو/ تموز 2018، مساندته لتحول مصر إلى مركز إقليمي لإنتاج الغاز ودعم المشروعات الإقليمية. واعتبر البنك الذي ينفذ مشروعات للغاز بمصر، أن تلك المشروعات تدعم أيضا العلاقات السياسية والاقتصادية بين بلدان المنطقة. ورحب الاتحاد الأوروبي بهذا التعاون.
أخيرا قدرت احتياطيات الغاز بالبحر المتوسط بـ122 تريليون قدم مكعبة، ومع حركة كشوف الغاز وضعت كل دولة خطتها للاستفادة من هذا الاحتياطي، وتلاقت أحلام امتلاك الطاقة مع مشروعات سياسية بالمنطقة.
يمكن القول إن إسرائيل أكثر المستفيدين، فقد كثفت علاقاتها واتصالاتها في ما يخص قضايا الأمن والطاقة، وسعت للتعاون مع كل الأطراف، الذي لم يستثن من ذلك تركيا والتي أعادت تطبيع العلاقات معها، حيث شهد العام 2016 مباحثات حول قضايا الأمن والطاقة.
لعب وزير البنية التحتية للطاقة والموارد المائية يوفال شتاينتس دورا محوريا في هذا الصدد، وخاصة أنه شغل من قبل موقعي وزير الاستخبارات والعلاقات الدولية، وتصنف قضايا الطاقة والمياه كقضايا أمنية، وهي من أهم ملفات إسرائيل التي يتولاها شتاينتس، الذي شغل أيضا عضوية المجلس الوزاري المعني باتخاذ قرارات الحرب والسلم.
فيما يبدو أن مشاركة شتاينتس في القاهرة لم تقتصر على ملف الطاقة، لكنها تجاوزت ذلك إلى مهام أخرى معنية بمواجهة إيران وتركيا والضغط على لبنان، وبحث تطورات الوضع الفلسطيني. ومفهوم في السياق عدم دعوة لبنان وتركيا للمشاركة لأن الدولتين ليستا في حالة طواعية للتعاون الآن.
أعلن لبنان أنه لن يفرط في حقوقه النفطية، وسيواجه محاولات إسرائيل السطو على مناطق الغاز المقابلة لسواحله، بينما حاولت إسرائيل ترسيم الحدود مع لبنان بشكل يسمح لها بالتنقيب في مناطق تلامس المجال المائي للبنان، بل قدمت إسرائيل خلال فبراير 2017 احتجاجا رسميا للأمم المتحدة بعد إعلان لبنان مناقصات حول استخراج الغاز، إلا أن تلك الضغوط فشلت.
استطاعت إسرائيل عبر ترسيم الحدود ما بين السعودية ومصر (اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير)، أن تحفظ وجودها ليس في البحر المتوسط وحسب ولكن في البحر الأحمر، وبذلك سهلت سير ونقل الغاز الإسرائيلي عبر مصر والأردن، وسهلت حركة التنقيب عن الغاز مستقبلا، من هنا يُفهم إعلان القاهرة لإنشاء منتدى غاز المتوسط بدول محدودة، ويفهم أيضا شرط الانضمام للمنتدى والذي أعلنه وزير الطاقة المصري "أن تكون دول الاستهلاك والإنتاج والعبور تتفق مع المنتدى في المصالح والأهداف".
يمكن أيضا فهم إعلان منتدى شرق المتوسط للغاز من خلال التنافس الإقليمي في إنتاج وتوزيع الغاز، والذي يوثر في خريطة التنافس السياسي، فدول الاتحاد الأوروبي تبحث عن مصدر للغاز يخفف الاعتماد على الغاز الروسي، وإسرائيل تريد أن تستحوذ على سوق الشرق الأوسط الضخم، وكذلك تحاصر نفوذ إيران وتحاول تعطيل استخراج لبنان للغاز.
اقتصاديا، تستهدف مصر 10 مليارات دولار في السنة المالية 2018/ 2019 من استثمارات قطاع البترول، بالإضافة إلى أن تكتل الغاز الجديد يدعم التحالفات السياسية بالمنطقة والتي يرتكز جزء منها على دمج إسرائيل بالمنطقة، ومواجهة إيران بوصفها عدوا سياسيا ومنافسا في صناعة الغاز.
على جانب آخر، سيساهم منتدى الغاز في تعميق التعاون والتطبيع مع إسرائيل وصولا إلى علاقات طبيعية تتزامن مع ضغوط على الفلسطينيين من أجل تسوية القضية الفلسطينية.
استطاعت مصر أن تأخذ موقعا مركزيا وأن تطلق مبادرة غاز شرق المتوسط لعدة أسباب، منها اكتشافات الغاز المتعددة منذ العام 2015، وأبرزها حقل ظهر، الذي اكتشفته "إيني"، ويعد الأكبر من حيث احتياطي الغاز (30 تريليون قدم مكعبة)، وأيضا موقعها الجغرافي، وما تمتلكه من منشآت لصناعة الغاز، بالإضافة إلى ثقلها السياسي ودورها الإقليمي.