منبجُ نسْتَعليق

27 اغسطس 2015
قصفت طائرةَ الميغ خصر المدينة (Getty)
+ الخط -

لم تكن قيدَ حساباتنا، كانتْ حصة الرياضياتِ تقتصرُ على تعلّمِ الأعدادِ وعملياتِ الحسابِ السهلة، يرِدُ اسمُ الخوارزميّ فيها من بابِ الفخرِ به، لم يكن اسم التبريزيّ معروفاً بحصةِ الحساب ولا بحصةِ الرسمِ التي ملّت من لوحتِنا الخالدة: كوخٌ، بئرٌ، دجاجاتٌ، سربُ طيورٍ، شجرةٌ، وأفقٌ مفتوحٌ على الخيال. كنّا نفترشُ أعشابَ الربيعِ بصباحاتِ آذار ونراقبُ السماءَ التي تمرّ من تحتِها طائراتُ جيشنا (الباسل)، تتركُ وراءها ذيلاً أبيض نفاثاً، يغشى الحلمَ كضبعٍ يجرُّ فريسته إلى المغارة، فنصيحُ بلاوعي: أريد أن أصبح طيّاراً.


أمي تذهبُ كلَّ صباحِ جمعةٍ إلى قبر أخي، تقرأُ الفاتحةَ وتحدثه قليلاً عن حالَها بعده، ثمّ تضربُ الترابَ بيدها وهي تقول له بإصرار: قمْ لنذهبَ إلى البيت يابني، أنتَ الوحيد الذي كان يسمعُني، يابني لمَ تركتَ أمّكَ وحدها؟. لكنّه لا يجيب، فقد أصابتهُ في عنقهِ، أصابته الحرب.

خالتي تذهب كلّ يومٍ إلى الطبيب، يخبرها أنّها بخيرٍ، وأن صحتها جيدة، فتصرّ على أنّها مريضة بفراقِ ابنها الذي تسمعُ صوته منذُ أكثر من ثلاثةِ أعوامٍ ولا تراه، تسمعُ صوت ابنه/حفيدها الذي لم تربطْ خيطَ مهدِهِ بيدها، ولم تشهدْ ولادتَه وتزغردُ كما كانتْ تحلمُ، أصابتهما الحربُ بمنفى دون جوازِ سفرٍ ورغبة، وأصابتها بداءٍ لا دواءَ له.

خالتي الأخرى اعتنقَتِ الأسودَ والتبغَ مذهباً للحياةِ، بعد أنِ اختارَ الموتُ قلبَها، تندبُ حظّ وحدَتِها، وتغمضُ عينَيها كي لاترى شاهدةَ القبرِ وهي ملقاةً على الأرض بأمرِ الخليفةِ، واسم وحيدها محفورٌ بأظافرِ الطاغية الذي وهبَهُ دبابةً وألقاهُ في حقلِ الألغامِ ليتناثرَ تحتَ الشمسِ، تهذي نادبةً بهدوءِ العادةِ: وحيدي.. وحيدي، ولا تبكي، لأنّ دخانَ السجائرِ يوهمُها بأنّ نهرَ الفراتِ يسيلُ من عينِها اليسرى بفعلِ الحرب.

المدينة التي حصلتُ على موعدي الأولَ منها بعد اثنتي عشرةَ سنةٍ، لم يكتملْ، لأنَّ طائرةَ الميغ قصفتْ خاصرتَها وماتَ غصنُها الأخضرُ، حيثُ كنتُ وعصفورتي نقضمُ أولَ قشةٍ لنبني عشّنا الأبديّ عليه.

المدينةُ ذاتها تلقّت أكثر من طعنةٍ ولم تمتْ، لكنّها الآن مصابةٌ بهيستيريا الموت، فعلى كلّ جدارٍ من جدرانها يعلّق الغرباءُ رؤوس أبنائِها المتدحرجةِ عن المقصلةِ باسمِ الله، ولا تقوى على الصراخِ، لأنّ حبالَ صوتها صودرت بأمرِ الخليفة. المدينةُ ذاتها تقفُ الآن حائرةً أمام الله بسؤالها: يا الله هل سأعلّلُ نفسي بـ{فإنَّ معَ العُسرِ يسرا}، أم أعلّلها بـ{إنَّ مع العسرِ يُسرا}؟. هذا التأكيدُ عبر التكرار الإلهيِّ يمنحُ صبرها صبراً، لكنّ أشجارها توشكُ أن تصبح جرداء من العصافيرِ والأوراقِ معاً، فقد هاجرت العصافيرُ إلى كرومٍ لا تحلمُ بها وصارت كلّ فصولها هجرة وخريفا، لمن ستصبرُ إذاً؟.

المدينة ذاتها تحلمُ الآنَ بلحظةِ صمتٍ، بيومٍ واحدٍ لا تفكرُ عبره بالغد، ولا تستحضرُ به الأمسَ، تعيشهُ كاملاً بورودهِ وبسطاتِ الخضارِ التي تفوحُ منها أصواتُ الباعةِ المناديةِ: "حيّ على الحياة".

يومٌ واحدٌ فقط ليقرأ الشعراءُ آخرَ حرثهم ويغرقون بأبحرِ اللعنات، يومٌ واحدٌ فقط لتصفّفُ العروسُ شعرَها وتتركُه سافرِاً لآخرِ مرةٍ على كتفِ فرحِها الأبيضِ، تمشي بخفرٍ أمامَ بنات الحيّ شابكةً كفَّها بكفّ بيتها الأبديّ ثمّ تنامُ بهِ حُبلى بالبلادِ وتحلم بالأبيضِ الكافر. يومٌ واحدٌ فقط لتخطَّ قصبةُ "العليّان" أحرفَ النستعليق (منبج) فيسيلُ الحبرُ من ضفائرِ الشمسِ على سطورِ الأرضً المرسومةِ بمحراثٍ قديم، ويصبحُ الغريبُ آهِلاً، والأهلُ غرباء.

يومٌ واحدٌ فقط ليدفنَ الأبُ ابنَه المصلوبَ ظلماً فوق جذعِ الشجرة التي طلاها مثنّى بثلجِ الحياة، فصارتْ صليباً للجثثِ المتفسخة، بأمرِ الخليفةِ أيضاً.

المدينةُ ذاتها أفرغت مطابخَها وذاكرَتها من السكاكين كي تخفّفَ عن روحِها (فوبيا) الذبحِ المدهشِ حدّ الجنون، تكبّ ضوءَ الكازِ خارجَ المشهدِ كي تخفّفَ عن بصيرتها المتآكلة (فوبيا) الاحتراق، وتقرأُ بصوتٍ خافتٍ: "إنّما الأعمال بالنيات".

المدينة ذاتها ترسلُ إليّ حمامَها الزاجلَ محمّلاً برسائلِ الطرقاتِ: "حجرٌ وينضحُ بالحنينِ، ألن تعود؟!"، ولن أعود.

نصفُ البيوتِ واقفاتٍ، والنصفُ الآخرُ في إجازةِ البارود، الجدات اللائي هرمنَ، لم تعد تضنيهنَّ سيرة ملكِ الموت، وضعنَ بقجةَ العمر البهيّ تحتَ رؤوسهن، وتحزمّنَ بالكفنِ المرعبِ أبيضُه ونمنَ قريراتٍ. لم تكن قيد حساباتهنّ ولا حساباتنا، كانت أبعد من الكابوسِ بسنةٍ ضوئيةٍ، وأقرب من الواقعِ بشعرةٍ، إنها الحرب.

(سورية)

المساهمون