تبدو ردّة الفعل هذه غريبةً، فتأسيس شركة ربحية من داخل المؤسّسة الثقافية إن لم يكن حدثاً تاريخياً، فهو غير مسبوق منذ 1958؛ حين أُلحقت كلمة "الثقافة" بـ"وزارة الإرشاد القومي" في جمهورية لم يتجاوز عمرها خمس سنوات. لم يحدث أن اتُّخذت خطوةٌ صريحة تجاه تحرير العمل الثقافي في مصر من قيود الهيكل البيروقراطي للدولة، بأضلعه الأمنية والعسكرية والدينية.
غير أن خصخصة الثقافة، وإن لم تتحقّق بعد، تُشكّل مناسَبةً لطرح أسئلة ضاغطة. لعلّ ما يدفع إلى القول بضرورة إلغاء الوزارة، أساساً، كما عبّر عنه الكاتب المصري أسامة فاروق، هو "ميراثٌ طويل من التوجيه، ثم الاستقطاب، وجمع المثقّفين في حظيرة الوزارة، لغضّ الطرف عن الفشل المزري". لكن، بصعود إعلام خاص أكّد أنه أحرص على السلطة القائمة من إعلامها الرسمي نفسه، ثبت أن النغمة تظلّ نفسها (الصورة: وزيرة الثقافة المصرية).
حتى حين فرض السادات النسق الرأسمالي في أعقاب "الثورة التصحيحية" على القيادات الموالية لعبد الناصر سنة 1971، لم تقترح أيُّ جهة رسمية، أو غير رسمية، تحرير الثقافة من وصاية الدولة، ولو عن طريق تحويلها إلى مشروع ربحي في السياق "الانفتاحي" الجديد.
ورغم المبادرات الرأسمالية المربحة التي قام بها "ألاضيش" (أنصار/ أتباع) مبارك، وإن كانت ثقيلة على موازنة الدولة خلال ربع قرن هو عمر الفترة التي قضاها فاروق حسني في وزارة الثقافة، ظلّت الأخيرة تتحصّن داخل أسوارها الرسمية، متراجعةً أمام هجمات الإسلاميين، ذات الطابع الأخلاقي، عليها في القضاء والبرلمان، وخلافات طباعة وتوفير الكتب بأسعار زهيدة وبعض العروض الموسيقية في القاهرة والإسكندرية التي لم تُثبت أنها تستحقّ كلفتها الباهظة.
اليوم في 2018، هل طرأ شيءٌ على السكون المحيط بتلك الحالة؟ هل تعترف المؤسّسة باحتضارها في عمر الستّين، وبحاجتها إلى أكسجين السوق أخيراً؟
يتزامن الحدث، للمفارقة، مع الذكرى الثمانين لصدور كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" (دار المعارف، 1938)، أحد أشدّ النصوص راديكاليةً في التأسيس لهوية تنويرية، بالمعنى التاريخي للتنوير: صعود التيار العقلاني في أوروبا القرن الثامن عشر، وما ترتّب عليه من قيم علمانية وتقدُّمية.
"من المحقَّق أن تطوُّر الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول". يقول طه حسين، أيضاً، بالجذور اليونانية - المصرية القديمة لما يمكن أن نسميه الآن الحضارة المعاصرة (الغربية)، والتي على المصريين، من ثَمّ، أن يكونوا جزءاً غير منفصلٍ عنها: "ينظر المصريُّون إلى أنفسهم على أنهم من أهل الشرق، بسبب اللغة والدين، والمشاركة في هموم الاحتلال والتخلُّف. ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك".
وعلى طرف نقيض من الطرح ما بعد الكولونيالي القائم على المظلومية والدونية، يطالب طه حسين المصريّين "بألّا نلقى الأوروبي فنشعر أن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا، وما يضطرنا إلى أن نزدري أنفسنا".
إنه طموح لم تخذله الدولة وحدها وإنما خذله معها القطاع الأكبر من المثقّفين، بعد صعود نجم عبد الناصر سنة 1956. فبصرف النظر عن التقصير في العناية بالثقافة والعلوم، والذي يقول طه حسين إنه أفقد مصر حريّتها، ظل المحرّك منذ حرب السويس وحتى الحملة الانتخابية لحمدين صباحي سنة 2012 إحدى فكرتَين: "فيتِش" الوحدة العربية، وهوس الأصولية الإسلامية. وكلاهما تعبير عن ازدراء النفس وتأكيدٌ للفروق التي تُبيح للأوروبي الاستعلاء.
كان التوجُّه الناصري نفسه بالغ "الشرقية" (ولعله، كما تجلّى لدى خَلَفه المباشر، كان أيضاً إسلامياً على طريقته). لكن جنايته على المستقبل في الثقافة، كما في المجالات الأخرى التي تُديرها الدولة، تمثّلت في مصادرة كل نشاط مشروع أو إبداع محتمل داخل كيان مركزي واحد محكوم بالولاء والشعار، لا الكفاءة والقيمة.
أدّت تلك المصادرة، فضلاً عن الأمراض البيروقراطية المعهودة من بطالة مقنّعة وفساد إداري وهدر للموارد، إلى انعزال المؤسّسة الثقافية عن "الجماهير"، وابتعاد خطابها التجميلي الدعائي عن واقع حياتها. وهكذا، بات المجتمع المدني، الملاحَق أمنياً وأيديولوجياً، هو المورد الثقافي المعتمد عليه، فيما تحوّلت قصور الثقافة إلى بيوت أشباح.
خلال ثماني سنوات منذ سقوط مبارك في شباط/ فبراير 2011، تدفّق فيض من المقترحات بتطوير الوزارة، تتخلّله تصريحات أستاذ الأدب العربي، جابر عصفور، الذي حلّ محلّ "الوزير الفنان" لتسعة أيام قبيل السقوط، وكأنها علامات ترقيم: "لدينا خطط تلبّي احتياجات كل المثقّفين" (2011)، و"لأوّل مرّة، ستتحوّل بعض قطاعات الوزارة لقطاعات منتجة" (2014)، و"لا بدّ من تسليح وزارة الثقافة كما يتم تسليح القوات المسلحة" (2017).
عصفور، الذي قبل المنصب في آخر حكومات مبارك ثم عاد فتولّاه في أولى حكومات السيسي، هو أحد الأسباب الرئيسية لتحوّل كلمة "تنويري" إلى مسبّة لدى جيل كامل من المهتمّين بالشأن العام في مصر؛ فالناقد والمعلّم الذي اشتهر بمعاداة "الفكر الظلامي" من داخل أروقة المؤسّسة، أصبح الوجه العلماني لسلطة سياسية لم تحسم أمرها من الدين، والمثال الأوضح على تعامل أساطين الثقافة الرسمية مع أفق التحوّل التاريخي.
لكن طوال ثماني سنوات توالت فيها تصريحات عصفور من على الكرسي ومن ورائه، لم تُلغَ وزارة الثقافة ولم تُعد هيكلتها بشكلٍ جيد، ناهيك عن وجود أيّ تحرّك تجاه إشراك القطاع الخاص في اقتصادياتها.
لعلّ ما يُبرّر الصمت حيال إنشاء "شركة قابضة للاستثمار في الثقافة" هو أن شيئاً لن يحدث عملياً على الأرجح. كلّ ما في الأمر مبادرةٌ للإنتاج السينمائي سينتهي مثواها إلى الأدراج، مثلها مثل أكثر من مشروع ثقافي كبير وقّعت الحكومة على بروتوكولات تعاون مع الإمارات والصين لإنجازه منذ 2014.
المثقّفون، أيضاً، كما يثبت بمراجعة تصرفاتهم (عصفور نموذجاً) ليسوا قدّيسين منزّهين عن المصالح والمواءمات. النفور الأخلاقي من موالاتهم المجّانية للسلطة أو دفاعهم عن جرائمها (ربما درءاً لما يظنّونه سلطة أخطر على الثقافة متمثّلة في أشخاصهم) قد لا يكون سبباً كافياً لإزالة الآلية المفترض أن يقوموا عبرها بدور الوساطة بين المجتمع والسلطة.
لكن، دعك من المنع والمصادرة وسجن الأدباء وإغلاق المحافل. ففي ضوء طرد ضيوف مهرجان سينمائي دولي من الفندق المقرّر إقامتهم فيه لأن المهرجان لم يسدّد كلفة غرفهم (حدث بالفعل، في شرم الشيخ) هل يترك فشل المثقّفين المزري مجالاً للقيام بأي دور؟
يكفي النظر إلى مظاهر التديّن داخل معرض كتاب القاهرة لإدراك أن المؤسّسة الثقافية خسرت معركتها ضد الأصولية الدينية بالفعل.
السؤال الأكثر إلحاحاً، والذي ينطبق على اتحاد الإذاعة والتلفزيون ومؤسّسات الصحافة "القومية" وعدد كبير من الكيانات الحكومية فضلاً عن وزارة الثقافة، ليس سؤالاً عن جدوى الحفاظ على المؤسّسة الثقافية ولا فلسفة إدارتها، بل حول كيفية تحويل ديناصورات خاملة نخرها المرض وتعطّنت أعضاؤها إلى مخلوقات حيّة ونظيفة، قادرة على الإنتاج. فقبل التفريط في "ممتلكات الشعب" التي ما زال الخطاب "اليساري" يتمسّك بها على حالها، لا بد من إصلاح شامل وجذري يجعلها قابلة للبيع.
خصخصة الثقافة تقتضي تسريح الآلاف ومواجهة المئات بهزيمتهم. والسؤال الأكثر إلحاحاً ليس سوى سؤال مَن، ومتى. إنه سؤال عملي، تقني، مباشر. تتطلّب إجابته صراحةً وشجاعةً تبدوان غائبتَين في المستقبل المنظور، لكنهما بلا جدوى إذا لم يتبعهما حسم في صياغة وتنفيذ إجراءات أصعب وأخطر كثيراً من إصدار القرار الوزاري.