ملحمة قسنطينة الكبرى: بطولات بلا أسئلة

13 يوليو 2015
مشهد من ملحمة قسنطينة الكبرى
+ الخط -

بعد نهاية "البروفا"، اقترب من الفنّانين الشباب، مهنّئًا إيّاهم بالقول إنهم قدّموا ملحمة كبيرة. بدا فخوراً وهو يخاطبهم بلهجة جازمة: "ستُطلعون الأجيال الصاعدة على تاريخ بلدهم".

يُصدّق وزير المجاهدين (قدامى المحاربين) في الجزائر، أن بإمكان الاستعراض القيام بدور المؤرّخ، وتعريف الأجيال الجديدة بالتاريخ. وربّما كان إيمانه ذاك مردّ إصراره على حضور العرض التدريبي لـ"ملحمة قسنطينة الكبرى"، قبل أن يتربّع في صدارة المدعوّين إلى عرضها على خشبة مسرح "الكازيف" في العاصمة مؤخراً، بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين للاستقلال.

يحمل كلام الطيّب زيتوني اعترافًا ضمنيّا بإخفاق الدولة، بكلّ مؤسّساتها، بدءاً بالمدرسة ووصولاً إلى الإعلام، في التعريف بالتاريخ كما يجب. وإن كان لا أحد يعترف بأن مردّ ذلك هو الإفراط في العاطفة و"الديماغوجيا" والشعبوية من جهة، وبقاء التاريخ حبيساً للحسابات السياسيّة، من جهة أخرى.

منذ الاستقلال، عُمد إلى التركيز على شخصيّات وأحداث وحقائق وطمس أخرى، حسب مقتضيات كلّ مرحلة. إضافةً إلى ذلك، ظلّ التاريخ الوطنيّ مجتزأ، كما لو أنّ البلد، بشعبه وثقافته، لم يكن موجوداً على الخارطة قبل الاستعمار الفرنسي والحكم العثماني.

تحاول "ملحمة قسنطينة الكبرى"، التي عُرضت، أوّل مرّة، في الافتتاح الرسميّ لاحتفالية "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015"، في أبريل/ نيسان الماضي، تجاوز ذلك، من خلال العودة إلى التاريخ، والتوقّف عند أبرز المحطّات والشخصيّات التي ميّزت "سيرتا" (الاسم القديم للمدينة).

اشتغل المخرجان علي عيساوي وفوزي بن براهم، على مقاربة فنيّة متوازنة لتاريخ المدينة العريقة، ومن خلاله تاريخ البلد، وقدّما عبر لوحات كوريغرافية جمعت أكثر من 400 فنّان، مختلف الحقب التاريخيّة، من الدولة النوميديّة التي اتّخذت من قسنطينة عاصمةً لها (202 قبل الميلاد) وملوكها الأمازيغ (السكّان الأصليون للمنطقة)، أمثال ماسينيسا ويوغرطة ويوبا الأوّل والثاني، مروراً بقسطنطين والكاهنة وعقبة بن نافع والإخوة بربروس والبايات الواحد والأربعين، وصولاً إلى العصر الحديث.

غير أن العمل اختزل نصف قرن من الاستقلال في مرحلة العشرية السوداء ووصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى سدّة الحكم، دون إشارة إلى غيره من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلد. هنا نعود إلى المربّع الأوّل؛ حيث الفن والتاريخ ليسا سوى أسلوب لمدح السلطة ومغازلة المزاج الرسميّ. لعلّ الأمر متوقّع من هكذا أنماط فنيّة تكتفي بالتغنّي بالبطولات، دون أن تثير أيّة أسئلة. ومن المؤكّد أن الباحث فيها عن شيء آخر غير ذلك، سيكون قد توجّه إلى المكان الخطأ.

ظلّت "الملاحم" أسلوباً فنيّاً سيّئ السمعة في الحياة الثقافية، واعتُبرت شكلاً من أشكال هدر المال العام، دون أن يُسمح حتّى بالتساؤل عن تكاليفها، بما أن "تعريف الأجيال الصاعدة بتاريخها لا يُقدّر بثمن"، كما يقول القائمون عليها.

من هنا، كان ذلك "الهدف السامي" العنوان الأبرز لكلّ باحث عن تمويل حكومي لمشاريعه الثقافيّة. هكذا أصبحت الملاحم موضةً سيطرت لسنوات على المشهد الثقافي الجزائري، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، حين قدّم الشاعر الراحل عمر البرناوي والموسيقار الراحل محمّد بوليفة "ملحمة الجزائر الكبرى"، التي أتبعاها بأعمال أخرى، قبل أن يسير الشاعر عز الدين ميهوبي في إثرهما، ويقدّم ملحمة "قال الشهيد" سنة 1994، كمقدّمة لسلسة طويلة من الملاحم.

ومع مطلع العشرية الماضية، باتت الملاحم العنوان الأبرز لكلّ المناسبات الوطنيّة والفعاليات الثقافيّة الكبرى التي احتضنتها الجزائر، آخرها "ملحمة قسنطينة الكبرى"، وقبلها "ملحمة الجزائر الكبرى"، التي أعاد المخرج المسرحي عمر فطموش تقديمها برؤية جديدة، بمناسبة ستّينية الاستقلال، قبل ثلاث سنوات.

الغريب أن كلّ تلك العروض مرّت دون أن تُساهم في "تعريف الأجيال الصاعدة بتاريخها"، ولا أن ترسخ في الذاكرة بوصفها أعمالاً فنيّة جميلة. لكن، بعيداً عن مسرح "الكازيف" في العاصمة وقاعة "الزينيت" في قسنطينة، كانت ثمّة ملاحم أخرى وقصصٌ أبطالها أناس بسطاء ومطحونون، لعلّ أكثرها إثارة تلك التي رواها وزير المجاهدين الطيّب زيتوني نفسه، حين كشف أنّ أمّه، وهي زوجة شهيد، عملت منظّفة في المؤسّسات الحكوميّة بعد الاستقلال.

اعتُبر كلام الوزير شجاعة وتواضعاً منه، لكنه كشف جانباً مسكوتاً عنه، يتعلّق بالوضع الاجتماعي المأسوي الذي عاشته أرامل وعائلات المحاربين الحقيقيّين الذين قضوا في ثورة التحرير. قدّمت القصّة مثالاً حيّاً عن كيفيّة تكريم من استولوا على المناصب والعقّارات والامتيازات لذكرى رفاقهم. وتلك واحدة من الملاحم الكثيرة التي لن يشاهدها الطيّب زيتوني على الخشبة.

المساهمون