أُحب الشعوب الفقيرة، عن إيديولوجيا مُسبقة، وعن تجارب معاً. أمضيت في بيت اللجوء تسعة أشهر، وعاشرت لاجئين من أربع قارات. منهم الآسيوي والأميركي اللاتيني، ومنهم الأفريقي والشرق أوروبي. جميعهم هربوا من وضع لا يُطاق، يحدوهم حلمٌ غامض بغدٍ أفضل.
ومثل العجلة الدوارة، كنّا نودّع هذا النزيل القديم، ونستقبل ذاك الجديد. محاولين نسيان أننا في مقام الفندق.
لم تكن تخلو الوداعات من دموع صامتة، وأحياناً جهشات بكاء، تتلبّس النزيلات لا غيرهنّ. فالذكور أقل إحساساً وأشد تماسكاً.
نتبادل أرقام الموبايلات، ونتعاهد على مداومة الاتصال، وغالباً ما لا نفعل.
وحين جاء الدور عليّ، أنا الأقدم وجوداً بينهم في البلد، ودّعتهم بشعور من يخرج من الأمان إلى المجهول.
شهور مرت على الخروج الآن. شهور لا تخلو من مقابلة هذا أو تلك في المترو، الشارع أو المكتب.
ورغم قسوة المنفى بقوانين رأسمالِه الصارمة، وربما بسببها، ما إن يرى الواحد منا رفيقه حتى نأخذ بعضنا بالأحضان، ونشرع في السؤال عن باقي الزملاء والزميلات.
إنه واحد من أندر إحساسات المنفى الجميلة: إحساس أن لك عائلة.
أمس تلاقيت مع جينا الفنزويلية وفيكتوريا الأوكرانية على غير موعد وغير مكان، وانفعلت من دموع الصبيّتَين.
واحدة قالت إنني أذكّرها بأبيها في كراكاس، والأخرى تشكو من زوجها ورعب الحياة بلا عمل.
جينا الطبيبة المختصة أقصى حلمها أن تعمل "مرافقة لكبار السن". أما فيكتوريا، عازفة التشيلو وتحفة الجمال الرباني، فـ"أي عمل في التنظيف".
هذه هي المحطة الأخيرة لقطار اليوتوبيا الأوروبي.
ولأن اللاجئين بالجملة نوع هش من البشر، وأقل شيء يكسره، فأغلبهم يعاني الأرق وأمراض الحساسية الجلدية، إضافة إلى شجون أخرى.
إنهم بشر طموحون: استعداد للكدح، ومغالبة الدنيا، على أمل الرسوّ على جوديّ.
لكن ما يفعله المنفى غير ما تشتهي رياحهم. والنتيجة أن الطموح يُفاقم العذاب!
البعض يطفو غريقاً، أو ينحرف، خاصة الآسيويون منهم. ذلك أنهم جميعاً جاءوا في زمن اليمين الشعبوي وانهياره الاقتصادي، دون وعي كاف بالواقع الجديد وبما يدور حولهم.
هل أقول إن الأفارقة واللاتينيين، أكثر قدرة على المجالدة والتكيّف والاندماج من الآسيويين والشرق أوربيين؟
لا يخلو تعميم من خطأ وربما خطايا. حتى لو تكلم المرء عن خبرة شخصية، فهذه تظل محدودة ونسبية في جميع الأحوال.
وبدلاً من تعميم ظالم، لا بأس من إزجاء ملاحظات:
الآسيويون، من أربعة بلدان عاشرتهم، متسرّعون في الحصول على مزايا، ومستنيمون للكسل، وراغبون في العيش بأدنى الجهد، و(بلا أي جهد، يكون أحسن)، كالعيش على قائمة المعونات من السوسيال أو الكنائس.
بينما بعضهم يمارس تجارات غير مشروعة.
أما الشرق أوربيون، فشبيهون بهم.
فيما الأميركي اللاتيني، بحكم وحدانية اللغة ربما، يكافح كي يعيش ولا أوهام تضخيمية لديه حول مستقره الجديد.
أما الأفارقة، فلعلهم الأفضل طرّاً.
أخلاق، وكدح ورضا بالقليل، حتى يأتي القليل الأكثر.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة