حدود الشفافية الأميركية
ومن خلال الاطلاع على الوثائق، يظهر أنه وعلى الرغم من رفع السرية عنها وإتاحتها للعامة، إلا أنها تمتلئ بأجزاء لم تُرفع عنها السرية بعد، وهي بضعة أسطر في حالات عدة، ومقاطع كاملة في حالات أخرى. ويلزم القانون رقم 13526 الخاص بالحصول على المعلومات الحكومية الأميركية بالكشف الدوري عن الوثائق الحكومية الرسمية بعد مرور 25 سنة عليها، إلا أن القانون ذاته وفّر للحكومة تسعة استثناءات تمكنها من عدم النشر، وهذه تتعلق بالحفاظ على حياة أشخاص ومصادر من تعاونوا سراً مع الولايات المتحدة. ومن الاستثناءات أيضاً ما قد يكون لحماية طرق جمع المعلومات والتجسس، أو أي وثائق قد تكشف عن طرق صنع أسلحة دمار شامل، أو تكشف عن انتهاكات أميركية للقوانين أو المعاهدات الدولية. كذلك تشمل تلك الاستثناءات أي وثائق تكشف طرق التخطيط لعمليات عسكرية أو عمليات استخباراتية.
ما أخفته الوثائق
وأخفت الوثائق هويات ومناصب المسؤولين العرب ممن تعاونوا مع واشنطن في السر من أجل تحقيق أهدافها في إنجاح مفاوضات كامب ديفيد. وكان من أهم الأجزاء التي لم ترفع عنها السرية، وثيقتان: الأولى مذكرة تقدير موقف صدرت عن وكالة الاستخبارات الأميركية بتاريخ 16 فبراير/ شباط 1979 تحدثت عن تحدي "القوى الإسلامية" لخطوات الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، حيال التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتم حجب المعلومات والتحليلات المرتبطة بهذه النقطة. والثانية، وهي الأكثر إثارة، وتتعلق بكشف النقاب في الوثيقة الصادرة بتاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1978 عن مقترح مصري لـ"القيام بعملية استخباراتية" ناقشها وزير الخارجية سيروس فانس، ووزير الدفاع هارولد براون، ومستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجينسكي، والمسؤول في قيادة الأركان المشتركة، الجنرال ديفيد جونز، ومدير الـ"سي أي إيه"، العميد ستانسفيلد تيرنر. وتقرر في الاجتماع الموافقة على دعم المقترح (تذكر الوثيقة وجود 5.5 أسطر لم ترفع عنها السرية)، بعد استعراض المخاطر وحجم دعم المشروع. وتم رفع الأمر إلى وزارة العدل للحصول على موافقة قانونية قبل عرضه على الرئيس جيمي كارتر. ويعتقد دبلوماسي مصري أن الأمر ارتبط بأنشطة مناوئة للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
تأكيد المعروف
وركز الجزء الأخير من الوثائق على جهود واشنطن في مفاوضات "الحكم الذاتي للفلسطينيين". فبعد إنجاز واشنطن توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، بدأ التركيز على المسار الثاني المتعلق بحق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو المسار الذي تشير الوثائق إلى تهميشه من الجانبين الأميركي والإسرائيلي عن طريق تخفيض مستوى التمثيل فيه والمشاركة بدبلوماسيين وبمسؤولين برتب منخفضة. وجاء هذا التهميش مناقضاً لما كان عليه الوضع من التمثيل على المستوى الرئاسي الذي طغى على مفاوضات كامب ديفيد ومعاهدة السلام. وسلم كارتر هذا الملف بداية إلى الممثل التجاري الأميركي روبرت شتراوس ثم نقله بعد ثمانية أشهر إلى سول لينوفيتز. وتكشف الوثائق كذلك عن عدم اكتراث الجانب الإسرائيلي بمفاوضات الحكم الذاتي للفلسطينيين، وصولاً إلى تمرير قانون في الكنيست يعتبر القدس مدينة موحّدة وعاصمة أبدية لإسرائيل في نهاية يوليو/ تموز 1980، وذلك في خضمّ مفاوضات إسرائيل مع مصر حول الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن الوثائق المهمة التي تضمنتها هذه الحزمة مذكرة (لا يُذكر تاريخها)، صدرت عن وكالة الاستخبارات المركزية، يُذكر فيها أن الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، أبلغ مدير الاستخبارات العسكرية المصرية حينها اللواء شوكت، بأنه لا يثق بالسادات، ويفضّل التفاوض المباشر مع واشنطن، وأن عليه إبلاغ السادات بذلك. وتؤكد "سي أي إيه" أن اللواء شوكت رفض أن يقول للسادات ما سمعه من عرفات، وفضّل أن يقول إن عرفات يعتقد أن لواشنطن حاجة في مسعاه لإحلال السلام في المنطقة، ولذا فهو لا يمانع في التفاوض المباشر معها.
إلى حد كبير، كشفت هذه الحزمة من الوثائق عن بعض النقاط الجديدة في تاريخ هذه المرحلة، ومواقف البعض حيال بعض القضايا. ويمكن رصد بعض النقاط الجديدة منها:
دعم السعودية لمفاوضات السلام: كشفت برقية من جدة صادرة بتاريخ 10 أغسطس/ آب 1978، حول لقاء جمع السفير الأميركي بالسعودية في ذلك الحين جون ويست بوزير الخارجية سعود الفيصل في مدينة الطائف، عن دعم السعودية لدعوة كارتر للرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. وأكد الفيصل أن "السعودية تريد النجاح لمباحثات كامب ديفيد، والنجاح سيكون لأهم حلفاء السعودية، وهما أميركا ومصر. وسنقوم بكل ما في وسعنا للمساعدة، وسنجعل دعمنا معروفاً للجميع".
توقع انهيار نظام حافظ الأسد: توقعت الإدارة الأميركية انهيار نظام رئيس النظام السوري الراحل، حافظ الأسد، على خلفية تزايد التحديات أمام حكمه من جماعات سورية مختلفة. وطالبت برقية، صدرت في 19 سبتمبر/ أيلول 1980، بعنوان "مراجعة السياسة الأميركية تجاه سورية"، بضرورة الاستعداد لحماية المصالح الأميركية في ما يبدو أنه "مستقبل غامض أمام سورية". وأشارت إلى أنه وعلى الرغم من صعوبة تحديد عمر نظام حافظ الأسد، وإلى أي مدى سيستطيع البقاء، إلا أنه من الواضح أن "النظام يموت".
قادة عرب لا يريدون دولة فلسطينية: كشفت بعض البرقيات، وطبقاً للرواية الأميركية، عدم تمسك الحكام العرب بإقامة دولة فلسطينية. وأشار محضر اجتماع عُقد في البيت الأبيض، في 17 يناير/ كانون الثاني 1980، بين نائب الرئيس المصري حينذاك، حسني مبارك، والرئيس الأميركي وقتها، جيمي كارتر، إلى أن مبارك أكد أن قضية القدس هي الأهم عند القادة العرب، وذكر أن الأمير فهد (بن عبد العزيز آل سعود) والملك خالد (بن عبد العزيز آل سعود) لا يعرفان إلا القدس. ولقد كان الرئيس السادات على حق عندما ذكر منذ أشهر قليلة أنّ لا أحد من القادة العرب يريد دولة فلسطينية مستقلة. هم يخشون الفلسطينيين، ويخشون من النفوذ السوفييتي الذي سيتمدد داخل أي دولة فلسطينية.
السادات... "أنا بديل جيد لشاه إيران": كما نقل محضر اجتماع بين كبار المسؤولين الأميركيين، عقد في الأول من فبراير/ شباط 1980 عن مسار الأحداث في الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الشاه في إيران، عن وزير الدفاع، هارولد براون، قوله "هل ينبغي علينا تشجيع السادات للعب دور خارج بلاده بما يتوافق مع تصوّره عن أدوار وتدخّلات يمكنه القيام بها في أفريقيا ومناطق أخرى؟". وأضاف براون "لو نظرنا حول المنطقة بحثاً عن بديل لإيران، لن نجد إلا مصر رغم فقرها المالي". وعلّق مدير "سي آي أيه" وقتها، الأدميرال ستانسفيلد تيرنر، بالقول "من الصعوبة إثناء السادات عن رؤيته كشرطي الشرق الأوسط، لكن هناك مخاطر لو شجعناه على القيام بهذا الدور. هناك خطر من أن يتجاهل هو الشأن الداخلي المصري ومشكلاته، وأن يتجاهل موافقة قواته المسلحة على القيام بمثل هذا الدور، وربما تؤدي هذه التحديات لأن يحدث في مصر ما حدث في إيران".
غزة... بديل لطالما طرح: وعرض محضر اجتماع بين الرئيسين المصري والأميركي، عقد في 8 إبريل/ نيسان 1980 في البيت الأبيض، لسؤال وجهه كارتر للمستشار المصري، أسامة الباز، عما إذا كان ياسر عرفات سيقبل مبدأ "غزة أولاً"، وهو المبدأ الذي روجت له إسرائيل في مفاوضاتها الثلاثية مع واشنطن والقاهرة حول الحكم الذاتي للفلسطينيين. ورد الباز بالقول "نعم يمكن أن يعطى الفلسطينيون بعض المناطق في مرحلة انتقالية قصيرة، ولكن لن يقبلوها على المدى الطويل. منظمة التحرير الفلسطينية تطلب الضفة الغربية وقطاع غزة".
عدم فهم واشنطن
تؤدي واشنطن دوراً كبيراً في كل قضايا المنطقة العربية، وشئنا أم أبينا تُحدد هذه الأدوار مصير ومسار الكثير من التطورات الجارية والمتسارعة من حولنا. ويسهم ضعف قدرات أغلب الحكام في عدم فهم تعقيدات المشهد السياسي الأميركي، إذ تكتفى هذه النخب بالتعامل مع مخرجات ونصوص القرارات الأميركية المهمة من دون التعرض لكيفية صنع هذه القرارات وربما إمكانية التأثير فيها. ويعد السادات نموذجاً لعدم معرفة النخبة العربية بتعقيدات المشهد السياسي الأميركي. وشخصن السادات علاقاته مع كارتر للدرجة التي كانت تبدأ فيها خطاباته الرسمية إليه بالقول "صديقي العزير كارتر، كيف حالك وكيف حال روزالين (زوجته)". في حين استخدم كارتر دوماً مصطلح "السيد الرئيس" في مراسلاته للسادات. وغاب عن السادات وعن الوفد المصري وضع أي تصورات لمسارات التفاوض إذا فشل كارتر في الفوز بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1980، وعليه كان يجب الضغط في قضايا مهمة لحسمها قبل إجراء الانتخابات، أو أن يتم تأجيل قضايا أخرى إلى حين معرفة من الفائز في الانتخابات، وهو ما لم يقم به وفد مصر المفاوض.
كذلك غاب عن ذهن المفاوض المصري إدراك كيف تفكر الإدارة الأميركية في ملف السلام في الشرق الأوسط، إدارة كارتر وغيرها من الإدارات، وكيف تتعامل مع ملف الصراع كجزئية محدودة من صراعها الأشمل مع الاتحاد السوفييتي. ولم يفهم الجانب المصري حينذاك دور اللوبيات الأميركية، خصوصاً اللوبي اليهودي، في عملية التفاوض ودعمه المطلق للجانب الإسرائيلي. أما الداخل الأميركي، خارج العاصمة واشنطن وربما نيويورك، فقد كان ولا يزال خارج حسابات الجانب العربي. وعلى الرغم من أن واشنطن، شئنا أم أبينا، تلعب دوراً مهماً ومحورياً في قضايا عربية كثيرة، ويحدّد موقفها تجاه أزمة أو قضية ما موقف بقية دول العالم باستثناءات قليلة، إلا أن واشنطن، في الوقت ذاته، تسمح لطبيعتها السياسية وإجراءاتها القانونية ببقائها مدينة مفتوحة، يمكن التنافس فيها على التأثير في الموقف والقرار الأميركي تجاه قضايا كثيرة، من خلال شرعنة ظاهرة اللوبي والعلاقات العامة. وسمح الفصل بين السلطات بانتشار مراكز القوى وتوزّعها بين السلطة التنفيذية والكونغرس والقضاء والإعلام وجهات غير حكومية بوجود مساحات واسعة للتأثير على عملية صنع السياسة الخارجية، حال فهم طبيعة المدينة وحدود التحرّك ومحفزاته داخلها. إلا أن النظم العربية الحاكمة لم تكتف، كما فعلت خلال العقود الأخيرة، بتجاهل القضية الفلسطينية في جهود لوبياتها، ولم تكتف كذلك بتجنب الاحتكاك باللوبي الإسرائيلي أو منافسته، بل إنها تكتفي فقط بترويج قمة السلطة الحاكمة ورأسها في هذه الدولة أو تلك. ولم تكتف هذه النظم بمحاولات فاشلة لتجميل سجلات قبيحة، خصوصاً ما يتعلق بحقوق الإنسان والأقليات والمرأة، مستخدمةً ذرائع ومبرّرات تتمحور حول أهمية قوة علاقاتها الاستراتيجية بواشنطن، بل تهاجم في أغلب الأحيان حاكم دولة عربية أخرى.