ملاحظات أولية حول "أحاديث في ما جرى"
على الرغم من كل التنظيرات التي حاولت تناول موضوع الذاكرة في علاقتها الجدلية بالذات والتاريخ، بدءاً بأرسطو وانتهاء ببول ريكور ودريدا، يظلّ مفهوم الذاكرة مفهوماً مبهماً يتهادى بين السلوك الحسي والإرادي، دونما أي حسم في صيغة التفاعلات القائمة بينها وبين موضوعاتها، متى تعلق الأمر بالانتقال بين ما هو شخصي وما هو عمومي أو مشترك، ويتكثّف متى تعلق الأمر بالذاكرة السياسية التي تبقى قابلة للتأويل، نظراً إلى كونها مفعمة بالصراع، ما يطبعها في كثير من الأحيان بطابع الانتقائية لتجنّب الاصطدام بين الروايات في تناول الأحداث، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالإدانة والاعتراف - الأنا المتذكرة - في العلاقة بالمشترك العام.
ومن جهة أخرى في علاقتها بصناعة تاريخ مستجدّ من خلال التذكر الفاعل والمشارك في إنتاج الحدث ضمن استمرارية زمنية ومن خلالها في إنتاج حقيقة معينة، يظن كثيرون أنها كانت غائبة في ثنايا الصمت أو أنها كانت مطوية ضمن صفحات الماضي واحتاجت إلى المذكرات باعتبارها آلية لمكافحة النسيان لكي تطفو مرة أخرى على سطح التاريخ الراهن، ولتفتح باب التأويلات المزاجية والأيديولوجية والموضوعية على مصراعيها.
عبد الرحمن اليوسفي لم يكتب مذكراته، إنما كان راوياً لأحداثها فقط، والراوي شفاهة ليس كالكاتب، لأن الراوي يتمتّع بالحرية في الرواية، من حيث الانتقال من حدث إلى آخر ومن موضوع إلى آخر، متولّهاً متعة الحكي وانسيابه، أما الكاتب فغالباً ما يكون محكوماً بطابع النصوصية والحبكة الأدبية والانتظام الكرونولوجي ومتطلبات السرد، حتى لا يتيه القارئ ويفقد بوصلة المتابعة.
من كتب مذكرات اليوسفي هو امبارك بودرقة (عباس)، وهو أحد صانعي تجربة الإنصاف والمصالحة رفقة الراحل إدريس بنزكري والأستاذ أحمد شوقي بنيوب، وهو من كتب بمعيته كتابه الماتع (كذلك كان) الذي يحكي تجربة الإنصاف والمصالحة بصيغة الذاكرة الجمعية للتجربة والذاكرة الشخصية لكليهما معاً باعتبارهما شاهدين وفاعلين في إنتاجها.
كان اليوسفي غائباً عن هذه التجربة أو فلنقل إنه كان مغيباً بسبب عزله المفاجئ من الوزارة الأولى، على الرغم من أن حزبه نال المرتبة الأولى في انتخابات سنة 2002، بينما انطلقت تجربة الإنصاف والمصالحة سنة 2004.
غاب اليوسفي ولم نسمع ولم نقرأ روايته للأحداث، بسبب صمته المطبق، ثم عاد بعد مرور 15 سنة لكي يفتح صفحات ماضٍ قريب تم فيه الانقلاب على المنهجية الديمقراطية وإجهاض الانتقال الديمقراطي في المغرب، في تزامن مع تجربة العدالة الانتقالية - الإنصاف والمصالحة - بينما كان الهدف أن يمضيا معاً نحو بناء مغرب العهد الجديد، وكذلك كان.