29 سبتمبر 2017
مكتبتي في نهر البارد
ضاقت كتبي ذرعاً برفوف مكتبتي، وقررت البحث عن رفوف أخرى، تستريح عليها بين يد تتناولها ويد تعيدها إلى مأواها. وضعت إعلاناً على حائطي في "فيسبوك"، يكشف هذه الرغبة، فاكتشفت جيلاً فلسطينياً جديداً، لا يشبه الأجيال الماضية التي ترعرعت في كنف فصائل المقاومة التي ربطت مصائر الناس في المخيمات ببرامجها، حتى ولو كانت تلك البرامج متآكلة، ولا بأفكارها الجامدة، ولا بطريقة تعاملها مع الشباب، حيث لا تترك لهم حرية المبادرة والعمل.
عاشت مكتبتي، مثلما عشت، متنقلةً بين بيوت عدة في بلدان عدة وفي منافٍ عدة. قبل الاجتياح الإسرائيلي لبنان، كانت لي مكتبة في مخيم عين الحلوة، استشهدت عندما استشهد بيتنا إثر قصف جعله ركاماً في ذلك الصيف الشقي من عام 1982. في لندن، أسست مكتبة تفرّق شملها بين أصدقاء بريطانيين وعرب وكرد عندما غادرت لندن مرغماً. عدت إلى لبنان، ثم إلى تونس، حيث أسست مكتبة جديدة، تنقلت معي بين تونس ولبنان، إلى أن استقر قسم منها في عين الحلوة، في غرفة مهجورة من البيت الذي رحل سكانه، وأما القسم الآخر فقد نما وزاد وتضخم في بيتي في صيدا. ولأن الكتب تزهق، كما نزهق، وتضجر من المكان كما نضجر، وضعت لها ذلك الإعلان، علّها تستريح من زهقها في الانتقال إلى بيوت جديدة ورفوف جديدة، تليق بها فأنقذتني من يأس كاد يودي بي. جعلتني كتبي الراحلة تلك أدرك أن المخيمات فعلاً أصل الحكايات.
اتصل بي شاب من مخيم نهر البارد، وأخبرني بأنه ومجموعة من شباب المخيم يرغبون باقتناء الكتب. ظننت أنهم يريدون الكتب لمكتباتهم الشخصية، اهتماماً بالمعرفة والقراءة. لكن، تبيّن لي أن وراء رغبتهم مشروعاً ثقافياً عميقاً ومبدعاً، أصابني بالدهشة والحبور فعلاً. في مخيم نهر البارد، الخارج من الرماد، 12 مقهى، كما في سائر المخيمات. رجال يلعبون الورق أو طاولة الزهر، يتسامرون على فنجان شاي أو يانسون، يحكون في الأوضاع السياسية وأحوال المجتمع وأمورهم الشخصية، لكنهم لا يقرأون، فمعظم البيوت تم تدميرها حين دمر المخيم قبل سنوات، وكانت الكتب من ضحايا التدمير، وليس في هذه الملمات مَن يولي عناية خاصة لاقتناء الكتب، عندما تأخذهم الكوارث نحو تأمين أسباب الحياة اليومية.
أراد شباب نهر البارد استغلال فضاءات المقاهي، لتشجيع الرواد على القراءة، فتبلور مشروعهم لإنشاء مكتبة صغيرة في كل مقهى، تضم ما بين عشرة إلى عشرين كتاباً، تتنوع عناوينها بين السياسة والأدب والشعر والمسرح والتاريخ والفكر والاجتماع، وذلك بالاتفاق مع أصحاب المقاهي، على أن تُعار الكتب لمَن يرغب بالقراءة في بيته، وفي مرحلة تالية، تشجيع هؤلاء على عقد جلسات خاصة في المقهى، لمناقشة الكتب المقروءة مع الرواد والشباب القائمين على المشروع.
لا يتلقى الشباب (ويرفضون) أي دعم مالي من أي جهة حكومية، أو فصائلية، أو غير حكومية. يعتمدون على جهدهم الشخصي، فالمنظمات غير الحكومية المنتشرة في المجتمع الفلسطيني أصبحت كالسرطان وسيلة للنهش والإثراء والتعيُّش. في مرحلةٍ لاحقة، يطمح الشباب إلى تأسيس مكتبة سينمائية في المخيم، قد يشكل لها المقهى صالة عرض مفتوحة للناس، حيث تعرض أفلاماً تتناول موضوعات على صلة بالواقع الفلسطيني لمخرجين فلسطينيين وعرب.
عندما جاء الشاب الفلسطيني، وائل فرغاوي، إلى منزلي في صيدا، لينقل الكتب من مكتبتي الخاصة، رأيت الكتب تتسابق للقفز إلى صناديق الكرتون التي ستحملها إلى مخيم نهر البارد، لا بل رأيت محمود درويش يخرج من الجدارية مبتسماً للحياة، ورأيت إدوارد سعيد داخل المكان بين مَن أعطى عمره لقضيتهم. رأيت شعراء وروائيين ومفكرين ومسرحيين عرباً سعداء على رفوفهم الفقيرة، يستمعون إلى وقع النرد في المخيم الجريح.
عاشت مكتبتي، مثلما عشت، متنقلةً بين بيوت عدة في بلدان عدة وفي منافٍ عدة. قبل الاجتياح الإسرائيلي لبنان، كانت لي مكتبة في مخيم عين الحلوة، استشهدت عندما استشهد بيتنا إثر قصف جعله ركاماً في ذلك الصيف الشقي من عام 1982. في لندن، أسست مكتبة تفرّق شملها بين أصدقاء بريطانيين وعرب وكرد عندما غادرت لندن مرغماً. عدت إلى لبنان، ثم إلى تونس، حيث أسست مكتبة جديدة، تنقلت معي بين تونس ولبنان، إلى أن استقر قسم منها في عين الحلوة، في غرفة مهجورة من البيت الذي رحل سكانه، وأما القسم الآخر فقد نما وزاد وتضخم في بيتي في صيدا. ولأن الكتب تزهق، كما نزهق، وتضجر من المكان كما نضجر، وضعت لها ذلك الإعلان، علّها تستريح من زهقها في الانتقال إلى بيوت جديدة ورفوف جديدة، تليق بها فأنقذتني من يأس كاد يودي بي. جعلتني كتبي الراحلة تلك أدرك أن المخيمات فعلاً أصل الحكايات.
اتصل بي شاب من مخيم نهر البارد، وأخبرني بأنه ومجموعة من شباب المخيم يرغبون باقتناء الكتب. ظننت أنهم يريدون الكتب لمكتباتهم الشخصية، اهتماماً بالمعرفة والقراءة. لكن، تبيّن لي أن وراء رغبتهم مشروعاً ثقافياً عميقاً ومبدعاً، أصابني بالدهشة والحبور فعلاً. في مخيم نهر البارد، الخارج من الرماد، 12 مقهى، كما في سائر المخيمات. رجال يلعبون الورق أو طاولة الزهر، يتسامرون على فنجان شاي أو يانسون، يحكون في الأوضاع السياسية وأحوال المجتمع وأمورهم الشخصية، لكنهم لا يقرأون، فمعظم البيوت تم تدميرها حين دمر المخيم قبل سنوات، وكانت الكتب من ضحايا التدمير، وليس في هذه الملمات مَن يولي عناية خاصة لاقتناء الكتب، عندما تأخذهم الكوارث نحو تأمين أسباب الحياة اليومية.
أراد شباب نهر البارد استغلال فضاءات المقاهي، لتشجيع الرواد على القراءة، فتبلور مشروعهم لإنشاء مكتبة صغيرة في كل مقهى، تضم ما بين عشرة إلى عشرين كتاباً، تتنوع عناوينها بين السياسة والأدب والشعر والمسرح والتاريخ والفكر والاجتماع، وذلك بالاتفاق مع أصحاب المقاهي، على أن تُعار الكتب لمَن يرغب بالقراءة في بيته، وفي مرحلة تالية، تشجيع هؤلاء على عقد جلسات خاصة في المقهى، لمناقشة الكتب المقروءة مع الرواد والشباب القائمين على المشروع.
لا يتلقى الشباب (ويرفضون) أي دعم مالي من أي جهة حكومية، أو فصائلية، أو غير حكومية. يعتمدون على جهدهم الشخصي، فالمنظمات غير الحكومية المنتشرة في المجتمع الفلسطيني أصبحت كالسرطان وسيلة للنهش والإثراء والتعيُّش. في مرحلةٍ لاحقة، يطمح الشباب إلى تأسيس مكتبة سينمائية في المخيم، قد يشكل لها المقهى صالة عرض مفتوحة للناس، حيث تعرض أفلاماً تتناول موضوعات على صلة بالواقع الفلسطيني لمخرجين فلسطينيين وعرب.
عندما جاء الشاب الفلسطيني، وائل فرغاوي، إلى منزلي في صيدا، لينقل الكتب من مكتبتي الخاصة، رأيت الكتب تتسابق للقفز إلى صناديق الكرتون التي ستحملها إلى مخيم نهر البارد، لا بل رأيت محمود درويش يخرج من الجدارية مبتسماً للحياة، ورأيت إدوارد سعيد داخل المكان بين مَن أعطى عمره لقضيتهم. رأيت شعراء وروائيين ومفكرين ومسرحيين عرباً سعداء على رفوفهم الفقيرة، يستمعون إلى وقع النرد في المخيم الجريح.