مقياس النيل: سجلّات المياه وتاريخها

26 يونيو 2020
مخاوف مرتبطة بحجز مياه الفيضان (Getty)
+ الخط -
كان تسجيل منسوب النيل طقساً دينياً مهماً لدى الأُسَر المصرية القديمة. في عهد المملكتين، المملكة الحديثة والبطالمة، كان مقياس النيل داخل المعابد التي يقيمونها على ضفاف النهر، وكانت مياه الفيضان عند وصولها تُعَدّ ماءً مقدساً، يقوم الكهان بالصلاة عليه ورشّه على جموع الحاضرين. ويمكن أن نشاهد مقاييس للنيل عبر سلالم نازلة إلى منسوب النهر داخل معابد الكرنك ودندرة وكوم أمبو وغيرها.
ظل تسجيل منسوب النيل يدوَّن على جدران المعابد الخارجية أو على الصخور، وكان يسجَّل في بعض الأحيان على مقياس متنقل يُحفظ داخل المعابد لرصد تغير منسوب النيل ارتفاعاً وانخفاضاً.
أهم أهداف تسجيل منسوب النيل، هو الاطمئنان إلى طبيعة الموسم الزراعي، ومعرفة حجم المحاصيل التي سينتجها المصريون خلال الموسم، وأسعار السلع، ومن ثمّ حجم الضرائب التي ستجنيها الدولة.

حجر بالدمو
يعود أقدم تسجيل لمنسوب النيل إلى الأسرة الخامسة على حجر يعرف باسم حجر بالدمو، ويوجد بمتحف في جزيرة صقلية الإيطالية. يرجّح الأثريون أنه يعود إلى العاصمة المصرية القديمة "منف". هذه الوثيقة ممثلة في لوح من حجر الشست الأخضر يبلغ سمكه 6 سم، ويبدو أنه كان معداً ليكون منصوباً على عمود في أحد المعابد لتقرأ بياناته على وجهين. ويضم الحجر أسماء الملوك من الأسرة الأولى سنة 3050 حتى الأسرة الخامسة سنة 2450 قبل الميلاد، ومنسوب النيل في زمن كل ملك، وهو بذلك يمثل مرجعاً مهماً لأسماء ملوك الدولة القديمة وتواريخ ولاياتهم، ومستوى الرخاء الذي كان في عهدهم!

مقياس الروضة
استمر بناء مقاييس النيل طوال العصور، ويعد المقياس الموجود في جزيرة روضة المنيل واحداً من أقدم الآثار الإسلامية، إذ يعود تاريخ إنشائه إلى سنة 861 ميلادية، في زمن الخليفة المتوكل العباسي، ليكون أقدم أثر إسلامي في مصر بعد بقايا إنشاءات قديمة في جامع عمرو بن العاص.
العالم والمهندس المعماري - الأوزباكي أحمد الفرغاني هو مَن شيّد هذا المقياس، مراعياً طبيعة المكان، فجاء تصميمه مقاوماً لتقلبات الزمن. يتكون المقياس من قاعدة حجرية مربعة طول ضلعها 8 أمتار، في وسطها بئر مربعة طولها 6 أمتار وعمقها 12 متراً، يتوسطها عمود طويل من الرخام مثمّن القطاع يعلوه تاج روماني طوله 19 ذراعاً، فيه نقوش، ومحفور عليه علامات القياس. علماً بأن المنسوب الطبيعي للنهر هو 16 ذراعاً؛ فإذا قلّ عن ذلك يحدث جفاف، وإذا زاد يحدث فيضان.



أما البئر فهو مكون من ثلاثة مستويات تقلّ حجماً كلما انتقلنا لأسفل. فالمستوى الأدنى على هيئة دائرة، أما المستوى الأوسط فهو مربع الشكل، ويزيد ضلعه على قطر الدائرة الأسفل، ثم المستوى الأعلى وضلعه أكبر من المربع الأوسط. ومنقوش على الحجر في هذا المستوى آية قرآنية بالخط الكوفي. وجاء تصميم قاعدة البئر التي يرتكز عليها عمود القياس من شجر الجميز لقدرتها على امتصاص الاهتزازات الأرضية وعدم التأثر بالمياه. وحول البئر من الداخل توجد 37 درجة سلّم تصل إلى قاع البئر. ويصل الماء إلى داخل المقياس عبر ثلاثة أنفاق من جهة الشرق، بطريقة هندسية تجعل الماء ساكناً داخل البئر ليصلح قياسه.

بعد السد
مرّ هذا المقياس منذ إنشائه بالعديد من عمليات الترميم والإصلاح عبر العصور، كان آخرها سنة 1937 في زمن الملك فاروق. وبعد إنشاء السد العالي، لم تعد هناك حاجة إلى الاعتماد على مقياس النيل، فتحول مقياس الروضة وغيره إلى مزارات سياحية، بعد أن فقد وظيفته العملية. فبحيرة السد العالي الواقعة في جنوب أسوان احتفظت لمصر بمخزون كبير يكفي لعدة سنوات، وصار الاهتمام بمنسوب بحيرة السد التي تغذي مصر بالمياه بصورة منتظمة دون إهدار، وليس بمنسوب الفيضان الذي يتذبذب من عام لآخر. كذلك صارت المخاوف المصرية الجديدة مرتبطة بحجز مياه الفيضان عن هذه البحيرة، في ظل إصرار الإثيوبيين على ملء خزان سد النهضة بصورة مفاجئة وسريعة، بما سيؤثر حتماً في حصة مصر من مياه النيل التي لم تنقطع عنها بفعل فاعل منذ فجر التاريخ.
دلالات
المساهمون