يكاد المقهى في الجزائر أن يكون ملحقًا بالبيت، من حيث حضوره الحميم لدى الجزائري، الذي يسيء إليه اجتماعياً أن يلتقي أصحابه أو ضيوف مدينته ولا يدعوهم إلى المقهى، حتى أن الضيف يُسأل: "هل هقهوجوك؟" لا هل أطعموك؟ وانزاحت كلمة القهوة في القاموس الشعبي من دلالتها، التي تحيل إلى المشروب المعروف الذي تتنافس اليمن وإثيوبيا على احتكار تاريخ اكتشافه، إلى الدلالة على الكرم أو الرشوة بحسب المقام الذي تستعمل فيه.
لعب فضاء المقهى، خلال الثلثين الأولين من القرن العشرين دوراً حاسماً في نشر الوعي الفني والوطني في صفوف الجزائريين، وكان من الفضاءات التي ساهمت في الدفع بهم إلى الثورة على الاحتلال الفرنسي، إذ كان مقهى واحد يصنع من الوعي الوطني ما تعجز عنه الآن المؤسسات الثقافية الرسمية مجتمعة، رغم أنها تتغذى على الخزينة العامة. من هذه المقاهي مقهى النجمة في قسنطينة، ومقهى التلمساني أو ملاكوف في الجزائر العاصمة.
تعرّض المقهى الجزائري خلال التسعينيات إلى ضربتين امتصتا كثيراً من حميميته، قلة الإقبال عليه بسبب الخوف من فخاخ الإرهاب، وعصرنته بالمنطق الذي يركز على البعد التجاري أكثر، فتم التخلي عن الكراسي والمقاعد وما يستدعيانه من حكايات وألعاب، خاصة في المدن الكبرى، إذ بات من المتعب إيجاد مقهى ذي طاولات وشرفات.
هذه الروح الجديدة للمقهى الجديد شبّبت يومياته وطقوسه ومشروباته، وجعلت المسنين ينسحبون أكثر إلى البيوت والمساجد والحانات القديمة، في تحول انضاف إلى جملة التحولات الاجتماعية، التي لم تراع نفسيات وذهنيات وعادات هذه الشريحة التي تقدر وزارة التضامن الوطني عددها بأربعة ملايين. ولاحق الإقصاءُ المسن الجزائري حتى داخل البيت، إذ بات من اليسير رصد الهوة بينه وبين أولاده وأحفاده.
في ظل هذا الواقع الذي لم يحظ بالدراسة والانتباه الكافيين من المنظومات المعنية، يطرح مقهى ولد الحسن في شارع الأمير عبد القادر في مدينة معسكر، 400 كيلومتر غرباً، نفسه فضاء مخصصاً للمسنين دون سواهم.
المقهى الذي فتح أبوابه وفناجينه عام 1901 بترخيص من الحاكم الفرنسي لضاحية وهران، التي كانت مدينة معسكر تتبعها إدارياً، بقي تماماً كما أنجز مطلع القرن العشرين، ما عدا ترميمات أجريت على السقف، أما طاولاته وكراسيه، فلا يتذكر الشيخ عبد القادر الذي ورثه عن أبيه المتوفى عام 1964، تاريخ آخر تجديد لها.
الشيخ عبد القادر لحسن، 1938، قال إن هناك مسناً جزائريا بات يحس، في ظل هذا المنطق، بأنه كائن معزول ولا خيار له ما عدا الانكماش. "هنا يأتي المسنون فيجدوا أنفسهم داخل الأبجديات التي كبروا عليها، ولك أن تسأل أيَّ واحد منهم، فلن تجده بقي أقل من خمس ساعات، بعضهم لا يقوم إلا للصلاة في المسجد المقابل. إنهم هاربون من جيل بات لا يفهمهم ولا يفهمونه".
نقلنا هذا الهاجس إلى عمار بن طوبال، الباحث في علم الاجتماع، فقال إنه يجب عدم النظر إلى وجود مقهى مخصص للمسنين فقط على أنه استثناء، فالعودة بحسبه إلى تاريخ المقاهي المتوسطية، ومنها المقهى الجزائري، تجعلنا نلمس البعد الفئوي له، إذ نجد مثلًا مقهى البحارة ومقهى الحمالين ومقهى التجار ومقهى المعلمين. ثم يتدارك: "غير أن انفراد مقهى في مدينة باحتضان فئة معينة دون سواها معطى يحتاج إلى دراسته، فقد يكون ذلك ثمرة لهوة أو انزياح اجتماعي معين".
معظم المسنين الذين التقيناهم في المقهى يقبضون تقاعداً معيناً، وما بقي منهم يعتمد على أسرته، الأسرة هي عامل اهتمام مشترك بينهم جميعاً، ولكثرة أحاديثهم عنها فالجميع يعرف أسماء أبناء الآخرين، ويعرف طبيعة أشغالهم ومشاكلهم ومشاريعهم. يقول الحاج بن عومر: "يميل المسن عادة إلى أن يتحدث لأترابه عن أسرته إما من باب الفخر أو من باب الشكوى. من هنا فالواحد منا يعرف كل شيء عن الآخر. هل يحدث هذا بين الشباب؟".
طاولات المقهى العتيقة مشغولة بشيوخ يلعبون الورق اثنين.. اثنين، والسائد أن الثنائية الخاسرة هي التي تدفع مستحقات ما يُشرب، وما يشرب لا يخرج عن نطاق المشروبات الساخنة، من قهوة وشاي وزعتر ونعناع وقرفة، تعد كلها تقليدياً على النار، ما عدا القهوة التي تعد بآلة جديدة تم شراؤها عام 2005. يبرر الحاج عبد القادر ذلك: "معظم من يقصدنا من المسنين اشتغلوا في فرنسا عقوداً، فتعلقوا بالقهوة على الطريقة الفرنسية، وهذا ما دفعنا إلى تحديث الآلة الخاصة بالقهوة دون سواها".
سألناه عن مدى رضاه عن مداخيل المقهى، فلفت الانتباه إلى أن المسن، عكس الشاب، أحادي الطلب، فهو يطلب قهوة أو شاياً ولا يزيد على ذلك، رغم طول مدة بقائه، يختم: "أتفهم هذا وأحترمه كخصوصية معينة في شريحة معينة، وأصارحكم بأني لو أجّرت المحل لغيري لجنيت ما أجنيه الآن مع الأتعاب كلها. أرى من يقصد مقهاي ضيفاً لا زبوناً".