لم توفّر الأزمة السورية شيئاً في عاصمة الأمويين. حكايات وحكايات عن أيام طوال، ومقاهٍ باتت تشبه الغرف المهجورة.
مقهى الروضة الذي تأسّس في العام 1938، ذو الواجهة البلّورية التي كان يحتلّها مفكّرون وشعراء وصحافيون طوال عشرات السنين، أضحى اليوم فارغاً. حتّى الصالة الصيفية التي يرتادها الشبّان والفتيات لشرب "النرجيلة" ومشروبات دمشق الشهيرة فرغت منهم اليوم بعدما دهمتها الأجهزة الأمنية واعتقلت من بينهم الناشطين في صفوف دعم الثورة السورية.
زاهر مصطفى، الملقب بـ"أبو أحمد"، مداوم في مقهى الروضة الدمشقي منذ 40 عاماً. يجلس إلى طاولته المعروفة في الزاوية وصحيفته بيده، حتّى يظنّه البعض مالك المقهى. يروي لـ"العربي الجديد" أنّ "المقهى تاريخ بحدّ ذاته، جلس فيه كبار السياسيين والمفكّرين، وساعد في ذلك قربه من البرلمان، بينما هو اليوم خاوٍ على عروشه، فقط بعض الطاولات، نصفها لبقايا مثقّفي النظام، والنصف الآخر لرجال الأمن والمخبرين".
كان الجزء الداخلي منه مخصّصاً للفنانين السوريين، حيث يناقشون السيناريوهات ويتبادلون الأفكار، وكان مكان التقاء المخرجين بالممثلين. لكنّ المقهى وحيد اليوم في شارع العابد العريق وسط العاصمة. الشارع المزدحم بالحواجز الأمنية وعناصر الاستخبارات.
أما الهافانا، أو مقهى البرازيل سابقاً، فقد تبدّل زبائنه، وأدّى قربه من مربّع محافظة دمشق، المحاصر بالأمن، وخضوعه إلى حراسة وتفتيش دقيقين، إلى هروب الزبائن الذين لن يقبلوا تفتيشهم أو سؤالهم كلّما دخلوا أو خرجوا: "لم نعد نستطيع الحديث في أيّ موضوع يمسّ البلد، إذ غالباً ما يكون زبائن الطاولة الملاصقة لطاولتك مخبرين، فضلاً عن التفتيش الذي تتعرّض له عند الحاجز الأمني الملاصق للمقهى"، يقول أحد روّاد الهافانا.. هو الذي يواظب على الحضور فيه منذ العام 1985. ويتابع قائلًا لـ"العربي الجديد": "لم يعد لمقاهي دمشق رائحة ولا لون، نكتشف اليوم أنّ زخم هذه المقاهي وجمالها كانا بروّادها الذين رحلوا، فمنهم من هاجر أو اعتقل، ومنهم من استشهد أو نزح إلى منطقة أخرى، وما تبقّى منه عبارة عن عصف ذاكرة، فتستذكر من جلس هنا، وما دار من أحاديث هناك، لتنتهي الجلسة بحسرة وكآبة".
كان الهافانا المكان المفضّل لدى الشاعر العراقي مظفّر النواب، والروائي والمسرحي السوري ممدوح عدوان، وسواهما من مثقفين سوريين وعرب وجدوا دمشق حاضنة ثقافية لهم... أما اليوم فبات مجرّد مقهى، مفتوح أمام أيّ شخص قادرعلى دفع فاتورة مرتفعة، كونه يتبع فندق الشام ذا الأسعار السياحية.
ويُعدُّ مقهى "الكمال" من أعرق مقاهي العاصمة وأقلّها كلفة. زبائنه من المثقّفين اليساريين، والشيوعيين الذين يأتون ليتذكروا أيّام النضال، ويقرأوا الصحف المحلية الحمراء. يقدّم المقهى الشاي (الخمير)، كما يسمّونه، والنرجيلة بالتنباك الثقيل، وبأسعارعادية. لذا قد يكون الوحيد الذي حافظ على عدد لا بأس به من الزبائن، لسببين: الأوّل أنّهم في معظمهم من كبار السنّ، والثاني أنّهم من أصحاب التوجّه اليساري، ممن لم ينخرطوا في الثورة.
مقهى الشرق الأوسط في جسر فكتوريا هو الأقلّ صخباً، وزبائنه من أصحاب الدخل المتوسط، معظمهم يعملون في التجارة. من تجّار الأسواق القريبة من منطقة المرجة، وسط العاصمة. وهؤلاء لم تتغيّر عادات كثيرين منهم، بل مثل معظم زبائن المقاهي، لم يعد في إمكانهم السهر حتّى وقت متأخّر بسبب تردّي الحالة الأمنية، والخشية من الخطف والقتل، والابتزاز الذي تمارسه بعض الحواجز الأمنية.
في الغالب لم يعد الليل الدمشقي يسمح لعاشقيه بالوصول إلى آخره كما اعتادوا. فحلّت بعض المقاهي الصغيرة، في منطقة ساروجة على سبيل المثال، مكان هذه المقاهي التاريخية. وهي تقدّم إلى زبائنها ما يشاؤون من شبكات تواصل مفتوحة ونقل مباريات الدوري الأوروبي وكأس العالم في كرة القدم، والمشروبات الأوروبية الغريبة، وصخب الحديث، بعيداً من عراقة المقاهي والحميمية السابقة.