مقاطع من موت الطبيعة

03 مايو 2020
(كارولين ميرتشانت)
+ الخط -

كان العالم الذي فقدناه عضوياً. منذ الأصول الغامضة لجنسنا، عاش البشر في علاقة عضوية يومية وفورية مع النظام الطبيعي لقُوْتهم. في عام 1500، كان التفاعل اليومي مع الطبيعة لا يزال معمولاً به لمعظم الأوروبيين - كما كان الحال بالنسبة للشعوب الأخرى - من خلال المجتمعات العضوية المتعاونة المترابطة. وبالتالي، ليس من المستغرب أنه بالنسبة للأوروبيين في القرن السادس عشر، كانت الاستعارة الجذرية التي تجمع بين الذات والمجتمع والكون كائناً حيّاً. كإسقاط للطريقة التي عاش بها الناس الحياة اليومية، أكدت النظرية العضوية على الترابط بين أجزاء جسم الإنسان، وتبعية الفرد للأغراض المجتمعية في الأسرة والمجتمع والدولة، والحياة الحيوية التي تتخلل الكون وصولاً إلى أصغر حصاة.

كانت لفكرة الطبيعة ككائن حي سوابق فلسفية في أنظمة الفكر القديمة، والتي شكلت اختلافاتها الإطار الأيديولوجي الذي ساد في القرن السادس عشر. ومع ذلك كانت الاستعارة العضوية مرنة للغاية وقابلة للتكيف مع السياقات المختلفة، بناء على ما جرى تأكيده من بين الافتراضات السابقة.

كان ثمة مجموعة من الاحتمالات الفلسفية والسياسية، والتي يمكن تصنيفها جميعاً تحت العنوان العام: العضوية.


■ ■ ■


وفقاً للنظرية العضوية تتماهى الطبيعة، وخاصة الأرض، مع الأم الحاضنة أو الراعية: الأنثى الطيبة اللطيفة التي وفرت احتياجات البشرية في الكون المنظم والمخطط. ولكن هناك صورة أخرى ومعارضة للطبيعة كأنثى كانت سائدة أيضاً: الطبيعة البرية التي لا يمكن السيطرة عليها والتي يمكن أن تأتي بالعنف والعواصف والجفاف والفوضى العامة.

كلتا الصورتين جرت مماثلتها مع الجنس الأنثوي وشكلت إسقاطات لتصورات الإنسان على العالم الخارجي. كانت استعارة الأرض كأم حاضنة وراعية تختفي تدريجياً كصورة مهيمنة، بينما شرعت الثورة العلمية في مكننة وعقلنة الرؤية الكونية. الصورة الثانية، الطبيعة كاضطراب وفوضى، دعت إلى فكرة حديثة كان لها تأثير كبير، وهي السيطرة على الطبيعة.

أصبحت الفكرتان الجديدتان، أي فكرة المكننة وفكرة السيطرة والهيمنة على الطبيعة، مفاهيم أساسية للعالم الحديث. وجرت عملية تقويض تدريجية للعقلية المُوجَّهة عضوياً والتي لعبت فيها المبادئُ الأنثويةُ دوراً مهماً، واستُبْدِلتْ بالعقلية الموجَّهة ميكانيكياً والتي قضت على المبادئ الأنثوية أو استخدمتها بطريقة استغلالية. وبينما أصبحت الثقافة الغربية ممكننة بشكل متزايد خلال القرن السابع عشر، فقد جرى إخضاع وقهر الأرض الأُنثوية وروح الأرض البِكْر بواسطة الآلة.

كان التغيير في صور السيطرة مرتبطاً بشكل مباشر بالتغيّرات في المواقف والسلوك البشري نحو الأرض. وفي حين يمكن النظر إلى صورة الأرض الحاضنة والراعية على أنها قيد ثقافي يقيّد أنواع الأنشطة البشرية المسموح بها اجتماعياً ومعنوياً في ما يخص الأرض؛ فإن الصور الجديدة للسيطرة والهيمنة كانت تعمل بمثابة غطاء ثقافي لتعرية الطبيعة. احتاج المجتمع إلى هذه الصور الجديدة بينما هو يواصل عملياته الصناعية والتجارية، التي كانت تقوم على أنشطة تُغيّر الأرض بشكلٍ مباشر، مثل التعدين، وتصريف المياه، وإزالة الغابات، وإزالة الأحراج (نبش جذوع الشجر لتطهير الحقول لزراعة). استخدمت هذه الأنشطة الجديدة تقنيات جديدة كالمضخات، والرافعات، والمطاحن، والقائمة تطول.


■ ■ ■


لم تحدث هذه التغييرات التكنولوجية والتجارية بسرعة، وإنما تطوّرت تدريجياً خلال العصور القديمة والعصور الوسطى، كما حدث مع التدهور البيئي المصاحب.

قامت الحضارة المتوسطية واليونانية المبكرة باستخراج الحجارة والمعادن من الجبال ببطء على مدى قرون عديدة، وغيّرت المناظر الطبيعية والغابات، وقامت بالرعي الجائر في التلال. ومع ذلك كانت التقنيات بدائية إلى حد ما، واعتبر الناس أنفسهم أجزاء من كون متناهٍ، حيث سادت أشكال عديدة من روحانية الطبيعة والمخلوقات وعبادة الخصوبة التي تعتبر الطبيعة كياناً مقدّساً. كانت الحضارة الرومانية أكثر براغماتية وعلمانية وتجارية، وكان تأثيرها البيئي أشد. غير أن الكتّاب الرومان، مثل أوفيد، وسينيكا، وبليني، والفلاسفة الرواقيين استنكروا التعدين علناً واعتبروه إساءة إلى أُمهم الأرض. ولكن مع تفكّك الإقطاع وتوسُّع الأوروبيين إلى عوالم وأسواق جديدة، أخذ المجتمع التجاري يؤثر بشكل سريع ومتصاعد على البيئة الطبيعية.

وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر، أصبح التوتّر كبيراً للغاية بين التطوّرات التكنولوجية في العالم، والصور القديمة المنبثقة من الفهم العضوي أو النظرية العضوية والتي لطالما مارست نفوذها. لم تعد الأنشطة الجديدة تتوافق مع الهياكل القديمة.

كانت كل من استعارتَي الرعاية والهيمنة موجودة في الفلسفة والدين والأدب. كانت فكرة السيطرة على الأرض موجودة في الفلسفة اليونانية والدين المسيحي، كما كانت فكرة الأرض الراعية والحاضنة موجودة في الفلسفة اليونانية والفلسفات الوثنية الأُخرى. ولكن مع تحديث الاقتصاد واستمرار الثورة العلمية تجاوزت استعارة السيطرة المجال الديني وأخذت تصعد في المجالين الاجتماعي والسياسي أيضاً.

يمكن العثور على هاتين الصورتين المتنافستين وارتباطهما المعياري في أدب وفن وفلسفة وعلوم القرن السادس عشر. كانت صورة الأرض ككائن حيّ وأُم حاضنة بمثابة قيد ثقافي يقيّد أنشطة البشر. لا يقتل المرء أُمّاً بسهولة، كما لا يحفر في أحشائها بحثاً عن الذهب ولا يشوّه جسدها، على الرغم من أن التعدين التجاري سرعان ما سيتطلب ذلك. فكلما اعتُبِرت الأرض حيّة وحسّاسة، أمكن اعتبار القيام بأنشطة مدمرة ضدها خرقاً للسلوك الأخلاقي البشري.


■ ■ ■


وفي حين كان الإطار العضوي لعدة قرون تكاملياً بما يكفي لتجاوز التطوّر التجاري والابتكار التكنولوجي، فإن تسارع هذه التغييرات في جميع أنحاء أوروبا الغربية خلال القرنين السادس والسابع عشر بدأ في تقويض الوحدة العضوية للكون والمجتمع. ولأن احتياجات وأغراض المجتمع ككل كانت تتغير مع الثورة التجارية، فإن القيم المرتبطة بالرؤية العضوية للطبيعة لم تعد قابلة للتطبيق. ومن ثم، فإن معقولية الإطار المفاهيمي نفسه كانت مهددة ببطء، ولكن بشكل مستمر.


■ ■ ■


بين عام 1500 و1700 حدث تحوّل لا يصدّق. تم استبدال وجهة النظر "الطبيعية" للعالم، التي لا تتحرّك وفقها الأجسام إلا إذا تم تنشيطها - إما عن طريق محرِّك عضوي متأصل أو عن طريق "قوة" راكبة "مخالِفة للطبيعة" - بـ"قانون" غير طبيعي وغير تجريبي مفاده أن الأجسام تتحرك بصورة موحّدة إلا إذا جرت إعاقتها. تم استبدال التصوّر "الطبيعي" للأرض (في نموذج مركزية الأرض) في الكون المحدود؛ بـ"الحقيقة" المنطقية و"غير الطبيعية" للكون اللانهائي المتمركز حول الشمس.

في العديد من المجالات، استُبدل اقتصاد الكفاف - الذي يتم فيه تبادل الموارد أو البضائع أو الأموال أو العمالة بالسلع - تم استبداله بتراكم غير محدود للأرباح في سوق دولية. ماتت الطبيعة الحيّة، في حين وُهِبَت الحياة للمال الجامد الميّت. إن رأس المال والسوق يفترضان بشكل متزايد السِّمات العضوية للنمو والقوة والنشاط والحَمْل والضعف والانحلال والانهيار، مما يحجب ويُعمي العلاقات الاجتماعية التحتية الجديدة للإنتاج وإعادة الإنتاج التي تجعل النمو الاقتصادي والتقدّم ممكنين. تم وضع الطبيعة، والنساء، والسود، والعمّال بأجر على طريق أن يصبحوا موارد "طبيعية" وبشرية للنظام العالمي الحديث. وربما كانت المفارقة القصوى في ما يتعلق بهذه التحولات هي الاسم الجديد الذي أُطلق عليها: العقلانية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البيئة والوباء

عملت كارولين ميرتشانت أستاذة لتاريخ العلوم، والبيئة، والفلسفة في جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي قبل تقاعدها مؤخراً. كتابها الرائد "موت الطبيعة: المرأة والبيئة والثورة العلمية"، الذي تصادف طبعته الجديدة هذا العام مع مرور أربعين سنة على صدوره لأول مرة عام 1980؛ أثّر تأثيراً كبيراً على مجالات تاريخ العلوم ودراسات المرأة والتاريخ البيئي. وتجدَّد الاهتمام به مع وباء كورونا الذي أضاف ثقلاً إلى أطروحته.

في كتابها "موت الطبيعة: المرأة والبيئة والثورة العلمية" تُعيد ميرتشانت تقييم الثورة العلمية في القرنين السادس والسابع عشر. في هذين القرنين، اتخذت الثقافة الغربية شكلَها الحالي الموجَّه نحو "التقدُّم" التكنولوجي. يستكشف الكتاب ببراعة الروابط التاريخية بين قضايا المرأة وعلم البيئة، ويخلص إلى أن تقدُّم العلم أعاق، للمفارقة، قضيةَ المرأة.

عندما جرى ترسيخ "الثورة العلمية"، لم يعُدْ يُعتبر الكون كائناً حيّاً، وصار بدلاً من ذلك يُعامل كآلةٍ. لم يعُدْ يُنظر إلى الأرض على أنها أُم راعية وحاضنة تُعامل بقيمة ومحبّة. يوضّح العمل كيف أدى هذا التحوّل الحاسم إلى تسريع استغلال الموارد البشرية والطبيعية، ويتناول السياسة والأدب والفن والثقافة الشعبية والفلسفة والدين ويدمجها مع التطورات في الفيزياء والرياضيات والتكنولوجيا والتجارة.

يعيد الكتاب النظر في مساهمات شخصيات رئيسية، مثل فرانسيس بيكون، وويليام هارفي، ورينيه ديكارت، وإسحاق نيوتن، وغوتفريد لايبنتس. ويركّز على كيفية خضوع النساء، كقابِلات، للأطبّاء الذكور، ويكشف عن عمل وحياة النساء اللواتي تم إغفالهن في هذه الفترة، مثل مارغريت كافنديش، وآن كونواي، وغابرييل إميلي دو شاتليه.

تُرجم "موت الطبيعة" إلى الإيطالية والألمانية والسويدية واليابانية والكورية والصينية، وستظهر الترجمتان الفرنسية والإسبانية هذا العام، ويُترجَم حالياً الى العربية والتركية.


* ترجمة عن الإنكليزية كريم جيمس أبو زيد، والمقاطع مقتطفات من كتاب "موت الطبيعة: المرأة والبيئة والثورة العلمية" الصادر عن دار "هاربر ون" الطبعة الثالثة المنقحة 2020.

دلالات
المساهمون