في فرنسا، تواصل حملة مقاطعة البضائع الإسرائيلية عملها، وتحتفل ببعض الانتصارات التي حققتها، على الرغم من مرسوم حكومي يسعى إلى محاصرتها بالدعاوى القضائية، تمهيداً إلى إنهائها.
يوم 12 فبراير/ شباط 2010، أصدرت وزيرة العدل ميشيل أليو- ماري مرسوماً يجرّم الدعوات المطالبة بمقاطعة البضائع الإسرائيلية. يقول المرسوم المثير للجدل: "منذ شهر مارس/ آذار 2009، جرى تحريك إجراءات قضائية رداً على دعوات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. هذه الدعوات اتخذت صورة تجمعات أمام مراكز تجارية، وعرفت انتشاراً على مواقع إلكترونية. هذه الأفعال كفيلة بأن تشكّل مخالفة جنائية. وبدا أنه من الضروري أن يصدر من الوزارة ردّ مناسب وصارم على هذه الأعمال".
المرسوم غير مُوجَّه لقمع مختلف الدعوات التي تطلقها في فرنسا جمعيات ضد منتجات شركات أو منتجات دولٍ تتعرض سياساتها الاجتماعية للانتقاد، بل فقط ضد دعوات مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
حملة المقاطعة المعروفة باسم "بي دي إس"، والتي تضم اليوم أكثر من أربعين بلداً، انطلقت من فلسطين المحتلة، من قبل المجتمع المدني في 9 يوليو/ تموز 2005، من أجل الضغط على إسرائيل للامتثال إلى القوانين الدولية. وكردّ فعل على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2008-2009)، انطلقت حملة "بي دي إس فرنسا" لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، عبر تجمعات أمام أسواق تجارية تبيع تلك البضائع. بالتالي، فإنّ المرسوم يستهدف بالذات تلك الحملة.
لاقى المرسوم كثيراً من الانتقادات من جهة رجال القضاء وشخصيات أخرى مرموقة، من بينها الرئيس السابق لمنظمة "أطباء بلا حدود" روني برومان. وقد أكد الأخير في مقال له أنّ "فرنسا تمثل البلد الوحيد في العالم إلى جانب إسرائيل الذي يُجرّم مقاطعة إسرائيل. ويمكنك أن تجد كثيرين في إسرائيل يرفضون مبدأ معاقبة المقاطعة، إذ صوّت أربعة قضاة من بين تسعة في المحكمة العليا الإسرائيلية ضد معاقبة مقاطعي إسرائيل".
لم يتقدم أي مركز تجاري فرنسي بشكوى ضد منظمي هذه الحملات. بل جاءت المتابعات الجنائية من قبل النيابة العامة أو من طرف جمعيات صهيونية كـ"المكتب الوطني لليقظة ضد معاداة السامية" أو "الغرفة التجارية الفرنسية الإسرائيلية" أو "محامون بلا حدود".
اقرأ أيضاً زهير لَهْنا: أين النخب العربية المدافعة عن حقوق المرأة؟
عن كيفية عمل هذه الحركة التي تزداد شعبية في فرنسا والعالم وتعرّض بعض الناشطين إلى متابعات قضائية، يقول الناشط فيها جان-غي غريلسامر، المسؤول السابق في جمعية "الاتحاد اليهودي من أجل السلام": "منذ عام 2010 تعرض أكثر من مائة شخص لإجراءات بوليسية في فرنسا. وجرت متابعة أكثر من 40 منهم أمام محاكم جُنَح. إذا كانت المتابعات الجنائية لم تتمّ بشكل دائم ضد مناضلي بي دي إس، فإنّ هذا المرسوم يعتبر سلاحاً رادعاً ضدهم. بعد صدوره، تضاءلت الحملات أمام المراكز التجارية بعض الشيء. لكنّ الحملة العسكرية على غزة في صيف 2014، أعادت الزخم إليها، فتحركت بشكل غير مسبوق، وهو ما جعل وسائل الإعلام الكبرى توليها أهمية كبرى".
يضيف غريلسامر لـ"العربي الجديد": "يوحي مرسوم أليو- ماري أنّ مقاطعة البضائع الإسرائيلية تسقط تحت طائلة الدعوة إلى التمييز على أساس انتماء شخص أو أشخاص إلى أمة، وهو سلوك يعاقب عليه قانون 29 يوليو/ تموز 1881 المتعلق بالصحافة". يردف: "لا يمكن اعتبار دعوات بي دي إس، بأيّ شكل، دعوة إلى الكراهية أو العنف، إذ جرت في إطار احترام تام لقانون 1881، في ما يخص منع التجريح والشتائم والخطابات العنصرية أو المعادية للسامية، والدعوة إلى ارتكاب مخالفات وتبرير الجرائم الدولية". يتابع: "في ما يخص البضائع الإسرائيلية، فإن هذه الدعوات لا يمكن اعتبارها حثاً على التمييز المبني على أصل أو انتماء أو عدم انتماء شخص أو مجموعة إلى إثنية أو عرق أو دين". ويشدد غريلسامر على أنّ المقاطعة "تستهدف فقط الأصل الوطني لمنتج ما، أي دولته. وللتذكير، لا يمكن لأيّ كان أن يعثر في حملات بي دي إس على دعوة لمقاطعة منتجات من أصل يهودي أو كوشير (حلال يهودي)، مهما كان أصلها الوطني".
ويؤكد غريلسامر على أهداف الحملة المتمثلة في "وضع حد للاحتلال الإسرائيلي والاستيطان، وإزالة الجدار العنصري ووقف حصار قطاع غزة، وتحقيق المساواة في الحقوق بين الإسرائيليين والفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية، وأخيراً تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وعلى هذا الأساس فإنّ بي دي إس ستواصل رسالتها إلى أن تنصاع إسرائيل للقانون الدولي".
يقول غريلسامر إنّ مبدأ "لا عنفيّة الحملة يثير حفيظة إسرائيل. فالأخيرة تردّ بعنف أقوى في حال لجوء الفلسطينيين إلى عنف مشروع. لكن مع اللا عنف لا تعرف كيف تردّ، لأنّ الأمر لا يندرج في فلسفتها السياسية". يتابع: "هي أيضاً حركة معادية للعنصرية، لأنها تستهدف السياسة العنصرية لإسرائيل، أي العنصرية ضد العرب، والإسلاموفوبيا المتصاعدة".
اقرأ أيضاً: قلق يتملّك أصحاب المكتبات الإسلامية في باريس
تركز حملة "بي دي إس" على سلاح المقاطعة الاقتصادية، أي مقاطعة الشركات الإسرائيلية التي تنشط في المستوطنات. لكنّ أعضاءها يعون أنّ المقاطعة تشمل مجموع الشركات الإسرائيلية. و"يكفي النظر إلى مثال الصين حين تعرضت للمقاطعة بسبب تدخلها في التيبت، إذ لم تتعرض الشركات التي تعمل في التيبت فقط للمقاطعة". كذلك، فإنّ العمل فقط على مقاطعة منتجات المستوطنات، صعب التحقيق، بحسب غريلسامر، لأنّ إسرائيل تخلط بين منتجات الضفة وإسرائيل وتسوّقها باعتبارها منتجات من الداخل الإسرائيلي. يتابع: "أكثر من هذا، فالمقاطعة الاقتصادية لا يمكن أن تجعلنا ننسى الأهداف المتبقية للحملة، وهي حق العودة ووقف حصار غزة، ثم المساواة بين العرب واليهود في إسرائيل".
لا يخفي غريلسامر بعض الاعتزاز بتحقيق انتصارات رمزية كبيرة. ومنها شركة "صودا ستريم" التي كانت تنشط في المستوطنات، فانسحبت كي تستقر في النقب. وقد قامت هذه الشركة، في فرنسا، خلال سنتين، بتعهد رعاية مهرجان أنغوليم السنوي الشهير للقصص المصورة (كوميكس). لكنها انسحبت هذا العام من قائمة المتعهدين. كذلك حوصرت أيضا شركة الأمن الإسرائيلية "جيكاتريس"، وهي شركة تعرف حضوراً كبيراً في بريطانيا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأميركية. أيضاً، سجّل انتصار في عام 2011 في فرنسا وغيرها، ضد شركة "أغريسكو"، وهي شركة مهتمة بتصدير الخضار والفواكه، وأغلب منتجاتها تأتي من المستوطنات. وقد ساهمت الحملة في إفلاس هذه الشركة.
يعترف غريلسامر أنّ حركة مقاطعة إسرائيل في بعض الدول الأوروبية أقوى من نظيرتها في فرنسا. ويذكر نجاح مناضلين من "بي دي إس" في ثني أكبر سوبرماركت في إيرلندا عن عرض البضائع التي تصل من المستوطنات. وهو ما يكشف أنّ المقاطعة حققت نجاحات كبيرة هناك وكذلك في بريطانيا.
لكن ماذا عن قانونية النضال في "بي دي إس" فرنسا، والمخاطر التي تتهدد المناضلين وتربكهم؟ يجيب غريلسامر: "مرسوم أليو- ماري، سيئ الذكر، يوصي النيابة العامة بملاحقة مناضلي بي دي إس المنادين بمقاطعة البضائع الإسرائيلية، بحجة الدعوة إلى التمييز ضد اليهود. كذلك يوهم أنّنا نطالب بمقاطعة الكوشير، وهو أمر منافٍ للحقيقة. لحسن الحظ فإنّ القضاة الفرنسيين بمعظمهم لم يسايروا تعليمات هذا المرسوم. كذلك، فإنّ الشكاوى مصدرها الدوائر الصهيونية في فرنسا". يتابع أنّ "كثيراً من القضاة، خصوصاً في مدينة ليون، لا يعيرون اهتماماً لهذه الشكاوى، لأنهم يعتبرون أنّ ثمة ما هو أهمّ من تقديم شكاوى في مسألة تتعلق بحرية التعبير. جرى حتى الآن تقديم أكثر من مائة شكوى، انتهى نحو 20 منها بتبرئة المتهمين، في حين انتهت ثلاث قضايا بأحكام إدانة".
يعيب غريلسامر على من يعتبر أنّ نشاط "بي دي إس" ينحصر في الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية فقط. ويعلّق أن ذلك "عمل نضالي وسياسي مُنظَّم وطويل الأمد من أجل استعادة اللاجئين المنسيين حقهم في العودة إلى ديارهم وبلدهم، وتحقيق المساواة الكاملة بين العرب واليهود، أي إنجاز ما حققه شعب جنوب أفريقيا في التخلص من نظام الأبارتهايد العنصري البغيض". ويصل إلى خلاصة في وجه العراقيل الأمنية والقضائية: "من هنا، ليس في استطاعة أو صلاحية قاض فرنسي أن يحاكم من يطالب بتطبيق القانون الدولي، ومن يطالب بانصياع دولة إسرائيل لهذا القانون".
اقرأ أيضاً: إفراغ عنيف لمخيّم كاليه