تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثاني عشر من حزيران/ يونيو، ذكرى ميلاد الشاعر الجزائري مفدي زكريا (1908 - 1977).
عندما رفض مصالي الحاج (1898 - 1974) المعروف بـ "أب الحركة الوطنية" في الجزائر وأتباعُه الالتحاقَ بـ الثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954، مفضّلين القيام بثورتهم "الموازية"، اعتبرتهُم "جبهة التحرير الوطني" أعداء وخونة، وأصبحت تُحاربهم مثلما تحارب قوّات الاحتلال الفرنسي.
ومن المفارقات أن ثوّار "جبهة التحرير" كانوا يقاتلون الاستعمار الفرنسي تحت نشيد "قسماً" الذي ألّفه الشاعر مفدي زكريا (1908 - 1977) عام 1956 بطلبٍ من المناضل عبّان رمضان، ولُحّن مرّات عديدة قبل أن يستقرّ على لحن الفنّان المصري محمد فوزي عام 1957، بينما كان "المصاليون" يقاتلون تحت نشيد "فداء الجزائر " الذي ألّفه الشاعر نفسُه عام 1936، وكان هو النشيد الرسمي للأحزاب التي أسّسها مصالي الحاج قبل بداية الثورة.
فقبل التحاقه بالثورة، انخرط مفدي زكريا، الذي تمرُّ ذكرى ميلاده الثانية عشرة بعد المئة اليوم الجمعة، في النضال السياسي السلمي ضدّ الاستعمار منذ اختلاطه بالأوساط الطلّابية الجزائرية في تونس التي سافر إليها في الثلاثينيات لإكمال تعليمه في عددٍ من مدارسها وجامعاتها، قبل أن يعود إلى الجزائر ويلتحق بـ "جمعية طلبة مسلمي شمال أفريقيا" التي كانت تناهض سياسة الإدماج، ثمّ بـ "حزب شمال أفريقيا"، فـ "حزب الشعب" الذي أصبح أمينه العام وناطقه الرسمي، فـ "حركة انتصار الحريات الديمقراطية". وفي كلّ تلك المحطّات، عاش تجربة السجن والاعتقال مرّاتٍ عدّة، أطولها كان بين 1937 و1939، وبين 1945 و1948.
ستتكرّر تجربة السجن مجدّداً بعد التحاقه بالثورة التحريرية عند انطلاقها؛ حيث اعتقله الاحتلال الفرنسي وسجنه لثلاث سنوات بين 1956 و1959 في "سجن بربروس" (سركاجي حالياً)؛ وهو السجن الذي كتب في زنزانته رقم 69 نشيد "قسماً" بتاريخ الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل 1955.
بعد خروجه من السجن، غادر إلى المغرب ومنها إلى تونس؛ حيث تلقّى العلاج من آثار التعذيب على يد فرانز فانون، وهناك أيضاً انضمّ إلى فريق جريدة "المجاهد"؛ لسانِ حال "جبهة التحرير الوطني"، حتى الاستقلال.
لم تكُن فترة الاستقلال التي بدأت عام 1962 على النحو الذي تصوّره زكريا بن سليمان بن الشيخ (وهو اسمُه الحقيقي) ومعهُ الكثير من الجزائرّيين؛ فراح يُعارض الأحادية السياسية والاستفراد بالسلطة، قبل أن يضطرّ إلى مغادرة البلاد إلى تونس مجدّداً، ليموت في المنفى عام 1977.
ورغم خلافه مع الرئيس الراحل هواري بومدين في سبعينيات القرن الماضي، إلا أنّ الأخير لم يتمكّن من تغيير "قسماً" الذي أصبح النشيد الرسمي للجزائر المستقلّة. وتتناقل بعض الروايات أنَّ بومدين لجأ قبل هجرة مفدي زكريا إلى تنظيم مسابقةٍ لاختيار نشيد بديل، فشارك فيها صاحب "إلياذة الجزائر" باسم مستعار وفاز، وحين علم الرئيس بالأمر فضّل الإبقاء على النشيد الأوّل.
ولم ينته الجدل بخصوص "قسماً" بموت مفدي زكريا وهوّاري بومدين، فقد لجأ ثالث رؤساء الجزائر، الشاذلي بن جديد، تحت ضغط السلطات الفرنسية إلى البرلمان وتمكّن من حذف المقطع الذي يبدأ بعبارة "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب"، غير أنَّ المقطع عاد مرّةً أُخرى بعد جدل كبير حول النشيد أعقب انتفاضة الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1988.
وبدايةً من 1996، اكتسب "قسماً"، بمقاطعه الخمسة، حصانة دستورية تواصلت مع التعديلات الدستورية المختلفة، بعد إدراجه ضمن "المواد الصمّاء" غير القابلة للإلغاء أو التعديل.
وارتباطُ اسم مفدي زكريا بالثورة التحريرية لا يقتصر على كونه مؤلّف نشيدها الرسمي، بل لأنّه سخّر لها موهبته الشعرية، وقد جمع ما كتبه عنها في ديوان شعري بعنوان "اللهب المقدّس". ولم تنته حكايته مع "الشعر الوطني" بانتهاء الثورة؛ إذ كتب في بداية سبعينيات القرن الماضي وقبل احتدام خلافه مع بومدين "إلياذة الجزائر"، وهي منظومةٌ شعرية من ألف بيت تتناول تاريخ الجزائر منذ العصور القديمة إلى ما بعد الاستقلال.