في اليوم التالي، تم عرض أخي على الطبيب المختصّ بالقسم. فاجأنا الطبيب، بعد أن قام بفحصه سريرياً، فحصاً أولياً، بمدى تمكنّ المرض الخبيث منه. قال إنّ الورم في الحالة الثالثة من حالاته الأربع. وإنه ليس أمامه سوى إجراء عملية منظار وتنظيف البروستاتا، مع أخذ عيّنات للفحص المختبري، وبناء على النتيجة يتمّ التعامل مع الحالة، بالعلاج الهرموني وربما بالعلاج الإشعاعي. خيّم علينا، أخي وأنا، جو من الكآبة الخانقة، والتجهّم. فتشخيص الدكتور وائل أبو عرفة، جاء معاكساً تماماً لتشخيصات الأطباء في غزة. فهم هناك قالوا إنّ المرض في مراحله الأولى، ويمكن السيطرة عليه بإزالة البروستاتا إزالة كاملة. قال أبو عرفة: لا فائدة عملية من إزالة البروستاتا. بل إنّ إزالتها في هذه المرحلة المتقدمة من الورم لها مضاعفات وخيمة، مثل عدم التحكم في التبوّل، وربما الحاجة الدائمة لتركيب كيس بول مدى الحياة. كانت مواجهة الحقيقة، بهذا الشكل العاري، قاسية على نفسيّتيْنا. نمنا تلك الليلة، وكأنّ الأكسجين قد شُفطَ من الهواء. أخي على سرير المرض في قسم المسالك، بالطابق الثاني، وأنا على السرير العلوي في البناية المجاورة.
لا أعرف كيف نمت ولا متى. الأغلب قبل أن يُشقشق الصباح.
■ ■ ■
أقوم مرعوباً، وأتوجّه لأخي لأشدّ من أزره. كم نحن ضعفاء أمام غائلة مرضٍ من هذا النوع. وكم نحن غرباء في هذه المدينة! لم يدخل جوفي قوت طوال الثلاثين ساعة الماضية. هنا لا يقدّمون وجبات للمرافق، وفي نفس الوقت، محظورة علينا مغادرة المطرح للبحث عن طعام. أسأل فيقال لي لا حانوت قريباً. أشدّ من أزر أخي الذي استسلم تماماً للفاجعة، فاسودَّ لون وجهه. ثمة طاقة أمل دائماً مهما قست الدنيا. أقول الجُملة وأعرف مدى هشاشتها البلاغية أمام واقع هرطوقي لا يعبأ بشيء.
أقف على باب المشفى الثاني وأسأل عابرة طريق متحجبة عن حانوت. تُرحّب وتقول بعد شارعين من هنا، وبإمكانك مرافقتي فطريقي من طريقك. أمشي معها. امرأة في الأربعين، سمينة قليلاً، وتلهث قليلاً. فالحرّ ويبدو أنها عائدة من سفر، جعلاها على هذا النحو. نترك شارع النشاشيبي خلف ظهورنا ونحوّد شرقاً وننزل درجات، وإذ بنا في شارع عام كله "مؤسسات حكومية" إسرائيلية. أشعر بالخوف، وبخاصة بعد اجتيازنا لإشارة ضوئية يقف بجانبها شرطيا مرور. أقول لها: لو أمسكاني سأُودع مباشرة في السجن، ثم أُرحّل فوراً لغزة، فتكون مصيبة أخرى تُضاف لمصيبة تشخيص أخي. تقول: امش عادياً ولا تلتفت لهما، واقرأ .. وتذكر لي آيات معينة من القرآن وأسماء سور قصيرة.
- هل تحفظها؟ تسألني بشكّ.
- طبعاً فأنا تخصص لغة عربية، ثم أصمت ولا أنبس. فتقرأ هيَ تلك الآيات، ونحن سائران في منحدر. أسألها عن المكان، وأعرف أنه "وادي الجوز"، والحانوت المقصود هو "حانوت التنور". نعبر الشرطيين، وتكلمني بعفوية عن حالها: أرملة بلا سند، فقدت زوجها قبل ست سنوات، ولديها ستة من الأولاد والبنات، أكبرهم ولد يدرس الآن في الجامعة العبرية، وتخاف عليه من انتشار المخدرات.
- ليعينك الله، فحملك جد ثقيل.
- أنا من نابلس أصلاً، وكنت عائدة من زيارة لأمي بمناسبة رمضان.
ننحدر أكثر، وأحاول العودة، فتقول أنت مثل أخي فلا تهتمّ. لم أفهم...
نمشي قليلاً، وأرى واجهة الدكان، فأودّعها ونفترق. أنحدر أنا، وتواصل هي صعودها نحو سفح الجبل القريب حيث بيتها.
امرأة طيبة ومسكينة، بها براءة جذبتني.
أتبضّع وأعود، وحين أمرّ بالقرب منهم، أسرع وفي يدي الأكياس، غير آبه بهم. فأفضل طريقة للتعامل مع "حرس الحدود" هنا هي تجاهلهم وكأنهم غير موجودين.
أعود وأتوه بعض الوقت فأسأل صاحب مطعم عربي، وأخيراً أصل إلى المستشفى، شاعراً بالظفر لأنني تبضّعت ولم أخَف، بينما المرافقون الآخرون محتاسون في تدبير لوازمهم.
يقول أخي إنها مغامرة أرجو ألا تكررها!
- لن أكررها.
أذهب وأدخّن في شرفة الطابق الثاني. وبعد محاولات مني، يقتنع أخي ويفطر.
يكلمني عن وائل أبو عرفة. أقول إنّ الاسم ليس غريباً عليّ. وأتذكّر دار نشر أبو عرفة في السبعينيات، واسمَ صاحبها "جميل". أشكّ في الموضوع فأسأل أحد الممرضين إن كان وائل شاعراً فيجيب بالإيجاب. أقول: إذاً هو ذاته من قرأت له مراراً ولا بد أنه قرأ لي.
في المساء، على باب المشفى، قبل أن يغادر بسيارته، أفتح معه الموضوع، وأعلمه باسمي، فيعرفني على التوّ، ويذكر لي بعضاً من أسماء جيلي الأدبي بغزة رغم فارق السن بيني وبينهم.
أفرح لهذه المصادفة الطيبة، وأتأمل فيها خيراً.
في اليوم التالي يأتي وائل بنسخة من ديوانه ويهديها لي. أشكره ممتنّاً حقيقة لهذه اللفتة الطيبة، وأعده بإهدائه نسخة من ديواني الجديد، الصادر في رام الله شتاءَ العام الفائت.
يستبشر أخي خيراً من هذه المعرفة. فالدكتور وائل هنا، يتكلّم بالقطّارة، ويبدو بخيلاً في كلماته. لغة دقيقة محددة صارمة صرامة العلم. لا كلمات على عواهنها، ولا شيء أزيد مما يجب. أحترم صرامته المهنية ودقتّه العلمية وكفاءته.
■ ■ ■
واضح استياء، بل غضب المقدسيين وعدم إيمانهم بجدوى ما تفعله سلطة رام الله، ومن ورائها العرب جميعاً والمسلمون. فالمدينة تواجه، هذه الأيام وهذه السنوات، أخطر مخطط إسرائيلي لتطويقها وتهويدها. "إسرائيل" تشتغل ضمن إستراتيجية بعيدة المدى، ومتسارعة الخطى، خاصة بعد أوسلو، وبالأخصّ في السنوات الأربع الأخيرة، لنفي الطابع العربي عن المدينة، وإزالته من الوجود. إنها تريد ابتلاع المدينة، وشطب سَمتها التاريخي والحضاري بكل السبل.
يقول إسماعيل الدباغ، المسرحي المقدسي المبدع، إنّ السلطة أضرّت القدس أكثر مما نفعتها. وحتى على الصعيد الثقافي، فهي تحاصر الفنانين المقدسيين الحقيقيين وتحاربهم، بأزلامها وتجار ثقافتها المؤسسية البائسة. لا حاجة هنا لذكر أسماء، فهي معروفة لكل مهتمّ. أسماء كالحة تعيش عالة على ذبالة الثقافة في المدينة المحاصرة.
ويقول يعقوب أبو عرفة (فنان مسرح الطفل وأحد سكان البلدة القديمة، الذين ابتُلوا بوجود مستوطِن "يُجاورهم" في السكن، وينغّص عليهم معيشتهم) إنه لا يعرف ماذا سيحدث معه غداً: ما هو مصيره ومصير أمّه وأخواته؟ هل سيبقى في البيت الذي ولد فيه، أم سيُرحّل عنه بالقسر والعربدة؟ فثمة منظمة اسمها "عطيرت كوهنيم" تراوده وجيرانَهُ عن بيوتهم. ومع أنه من هذه الناحية، شأن أغلب المقادسة، لا يبالي، إلا أنه يخشى، في حال يئست تلك المنظمة المتطرفة، من تدبير مكيدة مع حكومة اليمين، أية مكيدة، بهدف طردهم.
يقول أيضاً: منذ توقيع اتفاق أوسلو، تم هدم أكثر من ألف ومئة منزل. وفقط في العام الفائت تمّ سحب حقوق الإقامة من حوالي خمسة آلاف مقدسي. أما في هذا العام والعام القادم، فهناك تقديرات بوصول الرقم إلى أكثر من مئتي ألف عربي مهدّدين بسحب هوياتهم وإجلائهم عن المدينة!
أسمع هذا الكلام وأُحسّ به، فأتزلزل. ومن حديث طويل مع يعقوب، أصل إلى نبع الحقيقة: "إسرائيل" الدولة، تستفرد بالمقدسيين، كلٌّ على حدة. نظام استعماري بكامل عدّته وعتاده أمام فرد مسحوق، والنتيجة معروفة. هم عاجزون وحتى قنطوا من الاستصراخ، فلا أحد من جوارهم معنيّ بالسماع. لذا فليس أمامهم إلا انتظار الغيم.
- أنتم، إذاً، ضحايا انتظار الغيم يا يعقوب.
لكم الله يا صديقي! تحاربون على أكثر من جبهة، عراة عزّلاً من كل شيء، غير مواهبكم وصدقكم الحارق مع أنفسكم ومع وطنكم.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009