مع مصطفى أمين في سجنه

07 مايو 2020
+ الخط -
قال: كيف حالك مع مصطفى أمين؟ قلت: صاحب جريدة أخبار اليوم؟ قال: نعم، هو بعينه. قلت: صحبتي جيدة معه، وأكنّ له الاحترام والتقدير. وقد جمعت في مكتبتي الإلكترونية جميع كتبه التي استطعت الوصول إليها، قرأتها بشغف أكثر من مرة، خاصة تلك الرسائل التي كان يُهرِّبها من سجنه. وأنت لن تفهم الرجل إلا من خلال كتبه التي كتبها في سجون جمال عبد الناصر، حيث أمضى تسع سنوات مسجوناً بتهمة - على الأغلب كاذبة - وهي تعامله مع الاستخبارات الأميركية تلك الأيام.

قامت ابنتاه رتيبة وصفية بزيارة للسيدة جيهان السادات مع السيدة أم كلثوم، أملاً في التوسط من أجل الإفراج عن والدهما في عام 1972، ولم تُوَفَّقا في الإفراج عنه فوراً. لكن السادات أصدر قرار العفو عنه عام 1974 بعد حرب أكتوبر.

من جهة أخرى، أكد صلاح نصر في كتابه "عملاء الخيانة وحديث الإفك"، وهو كتاب صدر في عام 1975، أن مصطفى أمين كان جاسوساً فعلاً، وشرح بالتفصيل علاقته بالمخابرات الأميركية. والأكثر من ذلك، ذكر صلاح نصر أن جهاز مكافحة التجسس كان يحتفظ بملف حول علاقته بالمخابرات الأميركية، حتى من قبل ثورة يوليو 1952. وطبعاً قراتُ الكتاب، وأيضاً قراتُ كتاب عبد الله إمام "صلاح نصر الثورة والمخابرات والنكسة"، وهو عبارة عن تجميع وتلميع ضمَّ صوراً وحواراً سخيفاً سقيماً مع صلاح نصر. وفي الكتاب وثائق أيضاً، منها نص الخطاب الذي أرسله مصطفى أمين من سجنه إلى جمال عبد الناصر، ولا نطمئن إلى "موثوقية" هذا الخطاب، وفيه من دسِّ المخابرات الشيء الكثير. وذلك يثبت أن المخابرات المصرية هي التي لفقت تهمة التجسس في ملف مصطفى أمين، ولم يكن الرجل جاسوساً ولا عميلاً. كان صحافياً لامعاً مرعباً، حتى لرئيس الجمهورية العسكري.

ولد التوأمان مصطفى وعلي أمين في 21 فبراير/ شباط 1914. كان والدهما "أمين أبو يوسف"، محامياً كبيراً. أما والدتهما، فهي ابنة أخت الزعيم سعد زغلول، ومن هنا انعكست الحياة السياسة كثيراً على حياة الطفلين حيث عاشا الطفولة وترعرعا في بيت زعيم الأمة.

سافر مصطفى أمين إلى أميركا لإكمال دراسته، فالتحق بجامعة جورج تاون، ودرس العلوم السياسية، وحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية مع مرتبة الشرف الأولى عام 1938، ثم عاد إلى مصر وعمل مدرساً لمادة الصحافة في الجامعة الأميركية لمدة أربع سنوات.


طبعاً، لا يمكننا الثقة على الإطلاق بما قاله صلاح نصر عن مصطفى أمين، لأنه كان رئيس المخابرات المصرية العامة بين أعوام 1957-1967، وهو من وثّق هذه التهمة في ملف مصطفى أمين بجهاز المخابرات. وقد أمر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، باعتقال صلاح نصر، وقدمه للمحاكمة وأدانه في قضية انحراف المخابرات بالسجن لمدة 15 سنة وغرامة مالية قدرها 2500 جنيه مصري، وحكم عليه أيضاً لمدة 25 سنة في قضية مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر. لكنه لم يقضِ المدة كاملة، إذ أفرج عنه الرئيس المصري أنور السادات في 22 أكتوبر 1974 ضمن قائمة أخرى، وكان ذلك بمناسبة عيد النصر.

كان لممارسات صلاح نصر أثر سلبي واضح على مؤسسات الدولة نتيجة القمع والإرهاب الذي عاشه الشعب المصري تحت رحمة الأجهزة الأمنية الفاسدة، بالإضافة إلى ما يقال عن انحرافات وممارسات شاذة لصلاح نصر، روتها زوجته بالإكراه، اعتماد خورشيد.

ما يهمني في شأن مصطفى أمين، أن أسجل بعضاً من الحوادث والمواقف التي حصلت له في سجنه، وهرَّبها كتابةً لزوجته أو لأخيه علي في لندن. وقد لاحظت أمراً غريباً وغاية في الأهمية استخلصته من أعوام سجن مصطفى أمين: عندما يحترم السجان سجينه، فإن المواطن في تلك الدولة يكون محترماً في الشارع وفي بيته وفي عمله وفق الدستور والقانون المرعيين. وعندما يكون السجان وحشاً في تعامله مع سجينه، فإن المواطن في هذه الدولة يُجرَّد كلياً من جميع حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقوانين، ويصبح عيشه أشبه بعيش الوحش في الغابة. وهذا يؤكد لنا القاعدة الفكرية الخطيرة التي ترجع إلى كونفوشيوس، وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية، وتقول: إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً، عدلوا واستقاموا، وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا.

سأحكي هنا بتصرف عن واقعة من حياة مصطفى أمين في سجنه تحمل في طياتها دلالات كثيرة وتعطينا فكرة واضحة عن الفرق بين الحكم المدني أيام الملك فاروق وبين حكم العسكر أمس واليوم:

سجن القبة
يوليو/ تموز سنة 1965
عزيزتي

كان من بين وسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن صدر قرار بمنعي من الأكل والشرب. الحرمان من الأكل مؤلم، ولكنه محتمل. الجسم يتحمل الجوع. ولكن العطش عذاب لا يحتمل. وخاصة أننا في أواخر شهر يوليو. والحرارة شديدة قاسية. وأنا مريض بالسكر، مرضى السكر يشربون الماء بكثرة. في اليوم الأول تحايلت على الأمر. دخلت إلى دورة المياه فوجدت فيها إناء الاستنجاء. وشربت من ماء الاستنجاء. وفي اليوم التالي فوجئت بأنهم عرفوا أنني شربت ماء الاستنجاء. فوجدت الإناء فارغاً ووجدت معه ورق تواليت. واضطررت إلى أن أشرب من ماء البول، حتى ارتويت. وفي اليوم الثالث لم أجد بولاً لأشربه.

الجوع لمدة ثلاثة أيام أمر محتمل، أما العطش فهو عذاب مثل ضرب السياط. كنتُ أسير في زنزانتي كالمجنون. الحر في شهر يوليو/ تموز مؤلم. لساني جفّ، حلقي جفّ. أحياناً أمدّ لساني وألحس الأرض، لعل الحارس نسي نقطة ماء، وهو يغسل البلاط. وبينما أنا أدور حول نفسي وأنا أترنح، رأيت باب الزنزانة يُفتح في هدوء، ورأيت يداً تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء مثلج. فزعت. تصورت أنني جننت. بدأتُ أرى شبحاً. لا يمكن أن يكون هذا ماء. إنه سراب. تماماً كالسراب الذي يرونه في الصحراء. وما لبثت أن وجدت الكوب حقيقي. مددتُ يدي ولمست الكوب. فوجدته مثلجاً فعلاً. وقبضتُ على الكوب بأصابعي المرتعشة. ورأيتُ حامل الكوب يضع إصبعه على فمه وكأنه يقول لي: لا تتكلم. وشربتُ الماء. ألذّ ماء شربته في حياتي. أحسستُ بسعادة لم أعرفها من قبل. كل ذلك من أجل كوب ماء.

ومضت أيام التعذيب دون أن أرى الحارس المجهول. وذات يوم رأيته أمامي، وكنا على انفراد وقلت له هامساً: لماذا فعلت ما فعلت؟ لو ضبطوك، لفصلوك. قال باسماً: يفصلونني فقط؟ كانوا سيقتلونني رمياً بالرصاص. قلت: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة؟ قال: إنني أعرفك ولا تعرفني.

منذ تسع سنوات تقريباً أرسل فلاح في الجيزة خطاباً لك. يقول فيه إنه فلاح في إحدى القرى، وإن أمنية حياته أن يشتري بقرة، وإنه مكث سبع سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله، حتى جمع مبلغاً، ثم باع مصاغ زوجته، واشترى البقرة. وكان أكثر أهل القرية تقى وورعاً وصلاة وصياماً. وبعد ستة أشهر ماتت البقرة. مع أن جميع البقر الذي يملكه الفلاحون في القرية الذين لا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون الله، بقي على قيد الحياة. وفي ليلة القدر بعد ذلك بشهور، دقّ باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح. ودخلت محررة من جريدة "أخبار اليوم" تجرّ وراءها بقرة. وكانت أخبار اليوم قد اعتادت أن تُحقق أحلام مئات من قرائها في ليلة القدر من كل عام. وسكت الحارس المجهول، لحظة ثم قال: هذا الفلاح الذي أرسلتم إليه البقرة منذ تسع سنوات، هو أبي.
دلالات
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.