مع الناس وبين الناس
ما بين وصفها بأنها على وشك الانهيار، وأنها عبءٌ علينا يجعل الاحتلال بلا كُلفة على المحتلين؛ تخبطت تصريحات الفلسطينيين من مواقع السلطة. فالوصفان ينتميان إلى جنسٍ من الكلام السياسي والاستراتيجي، ربما كان ينفع لبنان، حين يقول اللبنانيون إن قوة بلدهم في ضعفه، بمعنى أن القطة الصغيرة أقوى من الفهد عندما ينازل أسداً، لأن الأول أحد الكواسر من فصيلة السنوريات الثديية، ولا يجاريه الأسد في سرعته، مما يجعل ملك الغابة متحمساً وقادراً على الفتك به. أما المسكينة الصغيرة فلا تستفز أسداً ولا فهداً، وإن قَلّل واحد منهما عقله، وهجم ليفتك بها، ستكون فضيحته!
في وضعية السلطة الفلسطينية، هناك مُنجز صهيوني احتلالي، يجعل هذه الكيانية المكبلة عاجزة عن أن تكون قطة أو فهداً. فقد رسم المحتلون خطتهم، ونفذوها، لإيصال الفلسطينيين إلى هذه الوضعية. ومن سخريات الحال أن السلطة، في كل محاولة لاسترضاء الأسد، وتهدئة نفسه واتقاء شره، تقول له إن خنقتني ستخسر إسهامي في تعزيز أمن عرينك، وهذا ما لا تفعله القطط الصغيرة الضعيفة، ولا ترضاه، ولا تموء به، وتعرف أن إسهامها الأمني، مهما بذلت، لن يتجاوز مستوى دلالته السياسية، لأن الذي يعربد لا يحتاج إلى من يحميه!
في الوصف الأول لوضع السلطة الفلسطينية، حين يُقال عنها، في لحظات استفاقة وقبل إمعان في التفكير، إنها تجعل الاحتلال بلا كُلفة على المحتلين، والأوجب حلّها أو تسليم مفاتيحها، تتبدّى فكرة ما بعد الاستفاقة أشبه بتهديدات الصغار الكبار حين يغضبون، أي مقطوعة السياق بالواقع. فأي حل وأية مفاتيح وكيف؟ وأين سيذهب من يسكنها، وماذا عن العاملين فيها، ومناصب كبارهم وأرزاق صغارهم؟
أزعم بأنني أسهمت في إقناع صائب عريقات بأن يكفّ عن التلويح بهذه الغضبة التي انفرد بالتهديد بها، فيما الآخرون في جفول. قلت له: ضع في حسابك أن العدو لن يُفاجأ، وليس بلا خطط لمواجهة موقف كهذا، ولا تخطئ بأن تتصور أن لا بدائل فلسطينية لك. .. فبعد عقود من احتلال كرّس علاقات اقتصادية مع المجتمع الفلسطيني، تجاوز حكاية السلع ومقاطعتها، أو عدم مقاطعتها اضطراراً، ورسّخ تدابير إدارية وأمنية، تتعلق بالحركة والتصاريح والاستثمار والسياسة المائية والخدماتية، وذلك كله أمام عيون القطة الضعيفة التي لا مغيث لها استراتيجياً، بل برضاها وبمشاركتها في معظم الأحيان؛ ستظهر البدائل في يوم وليلة، وستظل السلطة قائمة، لأن مفاتيح الصندوق مع أبي لمعة، حسب التمثيلية المصرية. ولن يتردد البدلاء في إظهار تشدد وطني لفظي، يتولى القراءة اليومية لمحفوظات صائب، وفيها المطلوب فلسطينياً والخروق الإسرائيلية. فالعدو لا يكترث لقراءة المحفوظات، لأن عينه على ما يجري على الأرض، وفي كل صباح يقيس درجة ارتفاع أو انخفاض تأييد الكتلة الشعبية ومساندتها الطبقة السياسية الفلسطينية.
بعد أن كفّ أخونا صائب عن التلويح بحكاية تسليم المفتاح، ساد صمت على هذا الصعيد، مع استمرار خرخشات الصراف الآلي مبهجاً الموظفين. ثم مع احتباس أموال المقاصة، وصمت الصراف وتبرم بنوك الإقراض، كان لا بد من كلام. قال أخي محمد اشتيه إن السلطة على وشك الانهيار، وسيارات الأمن الفلسطيني لن تجد الوقود لتعمل، وهذه إشارة تختصر عنصر تفوق القطة الضعيفة، في مواجهة ملك الغابة على السلطة المأزومة!
هنا، وهذا بيت القصيد؛ لا بد من مَخرج يبدأ، أولاً، من قلب المدخل. فلا يستطيع رجل واحد، ولو اتسعت دائرة مستشاريه (وهي ضيقة) أن يجترح خطة طريق فلسطينية، قوامها الناس، ويكون بين منافعها الكثيرة، جعل احتباس المقاصة من فظائع الحرب. الأمر يتطلب إعادة بناء شاملة للوضع الوطني الفلسطيني، وبناء جسور واسعة وحركة من وإلى، سريعة، مع ناس فلسطين وبينهم، في إطار ديموقراطي وطني عام، يُعلي ثقافة المقاومة بالأشكال المتاحة، ويرسخ تقاليد تساعد على الانعتاق من الاحتلال العنصري.