معين بسيسو في التسعين

22 يناير 2016

مات بسيسو وحيداً في غرفته في فندق في لندن

+ الخط -
سيبلغ معين بسيسو التسعين هذا العام. عاش منها سبعة وخمسين عاماً، قضى منها ثماني سنوات في السجون المصرية في المرحلة الناصرية في منتصف الخمسينيات وبداية الستينيات. كتب الشعر والنقد والمسرح الشعري والنثر الأدبي، وعاش في غزة والقاهرة وموسكو وبيروت وتونس، ومات وحيداً في غرفته في فندق في لندن، في الثالث والعشرين من يناير/كانون ثاني 1984. 
في نهاية ديسمبر/ كانون أول 1983، رأيته في لندن، وكنت عرفته في بيروت في السبعينيات. كان رجلاً وسيماً، تلك الوسامة التي تستحضر في الوعي نجوم السينما، طويلاً وله عينان حزينتان أبداً. ربما كان يدرك وسامته، لكنه كان خجولاً في إظهار ما يدركه رأفة بنفسه، وربما بالآخرين حوله. هكذا كانت تقول عيناه. كانت كلُّ مشاعره وانفعالاته جوانية، وهذا ربما هو السرّ في حزنه الساطع. كان شاعراً وطنياً ومناضلاً، قضى عمره القصير في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، محبّاً للاتحاد السوفييتي على عادة الشيوعيين. ولو عاش زمن تفكّك الإتحاد السوفييتي في التسعينيات، ربما كان سيناضل من أجل إعادة وحدته، أو على الأرجح، رفع صوته مؤيداً لهذا التفكك، وهو يرى إلى ورثة الاتحاد السوفييتي اليوم، وتطورهم الإمبريالي، ودعمهم نظام القتل في سورية، فمعين بسيسو كتب الشعر حول تل الزعتر، حين كان نظام حافظ الأسد يساهم في حصار ذلك المخيم، واغتيال مواطنيه وتجريفه إلى الأبد.
كان جمعٌ من كتاب وشعراء وفنانين فلسطينيين في اليوم الذي رأيته فيه آخر مرة يحتفلون بنهاية أسبوع ثقافي فلسطيني في لندن، شارك فيه الشاعر بقراءات من قصائده. كان الحضور كبيراً، فلسطينيين وبريطانيين وعرباً يتسامرون، وكان معين بسيسو يتحرّك بينهم، من غير أن يحكي مع أحد. رأيته هناك، ورأيت حزنه الأبدي. كان في عينيه سؤالٌ، أو رجاء، أو رغبةٌ في أن يقول لأحدٍ ما إنه سيرحل عن عالمنا هذا قريباً. هكذا، تحدث حكايات كثيرة. ينظر إليك الشخص المستعد للرحيل، ليخبرك أن ساعة الرحيل أزفت، لكنك لا تدرك معنى تلك النظرة، ثم يترك رحيله في قلبك غصة العجز عن الإدراك. مات معين بسيسو في غرفته في الفندق وحيداً وغريباً، وكان في قلبه حنين ما إلى غزة، مسقط رأسه، ومسقط أحلامه في العدل والمساواة والحرية والاشتراكية.
أحبت عائلته أن تدفنه في غزة المحتلة آنذاك. رفضت إسرائيل، على الرغم من تدخلات بعض السياسيين البريطانيين والأميرة آن شقيقة الأمير تشارلز، وريث العرش البريطاني. لا تستسلم إسرائيل للرغبات الفلسطينية، فهي لا تريد للفلسطينيين أن يعودوا إلى أرضهم أحياءً، أو أمواتاً، فقرّرت العائلة دفنه في القاهرة، المدينة التي أحبها معين بسيسو، وعاش فيها، وسجن فيها، مثل غيره من الشيوعين من نظام عبد الناصر، لكن خلافاً سياسياً بين النظام المصري ومنظمة التحرير الفلسطينية جعل السلطات المصرية تتلكأ أربعة أيام، قبل الموافقة على دفنه في مقبرة الأربعينات الشاسعة في ضواحي القاهرة. نقل جثمانه من تونس، حيث كان مشيعوه ينتظرون الموافقة المصرية، بعد أن تم نقله من لندن.
حفظت أجيال المقاومة الفلسطينية قصائد معين بسيسو عن الوطن، فمن منا لا يذكر: أنا إن سقطت فخذ مكاني، يا رفيقي/ في الكفاح/ واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من الجراح. لكن هذا الشاعر لم يكن محظوظاً، فلا الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي وهب معين عمره له، ولا منظمة التحرير التي عمل معها، ولا غزة مدينته التي أحبها، ولا المؤسسات الثقافية الفلسطينية في رام الله أو الداخل، ولا النقاد أعطوه حقه من التكريم والتذكّر، وكأنه في ذلك اليوم من أيام الشتاء اللندني، كان يريد أن يحكي، لا عن ساعة الرحيل موتاً، بل نسياناً، على الرغم من بقاء صرخته الشهيرة: نعم، قد نموت. ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.