معنى النكبة أردنياً

15 مايو 2020
من مظاهرة ضد جرائم "إسرائيل" في عمّان، 2008 (Getty)
+ الخط -

مع اندلاع ثورة البراق في منتصف آب/ أغسطس عام 1929، ردّاً على مسيرات نظّمها الصهاينة إلى الجدار الغربي لـ الحرم المقدسي، عمّت التظاهرات أنحاء المدن الأردنية وسط دعوات للانتصار للأشقاء، بحسب صحيفة "فلسطين" اليافاوية، حيث عقدت شخصيات وطنية اجتماعات عدّة كان من أبرز قراراتها تحميل الاحتلال البريطاني مسؤولية الأحداث وتبعاتها، ومقاطعة البضائع اليهودية، ودعم الفلسطينيين بالمال والسلاح والمتطوّعين.

مثّلت الأمّة بتعبيراتها المتنوّعة مفهوماً مركزياً لدى النخب في المشرق العربي، ومنه الأردن، التي انصبّ تفكيرها بعد انكفاء الدولة العثمانية عن تنفيذ إصلاحاتها المقرّرة عام 1876 وحتى انهيارها، على صيغ وحدوية مختلفة تكون الديمقراطية والمساواة والتحديث عماد قيامها، ورغم انشغالها داخل الحدود التي رسمها المستعمِر سعياً للاستقلال في كيانات قُطرية إلا أن الوحدة ظلّت هاجساً وحلماً لدى شعوبها.

تشارك "الاستقلاليون" الذين شكلّوا حكومات إمارة شرق الأردن والمعارضة التي بدأت بالتبلور نهاية عشرينيات القرن الماضي - مع توقيع المعاهد البريطانية الأردنية - في مقاومة المشروع الاستعماري في فلسطين الذي شكّل موضع إجماع شعبي وسياسي، متناسين خلافاتهم حول طبيعة الحكم التي لم تفض إلى أية تسويّات آنذاك، في لحظة تاريخية لم تنل حظّها الوافي من الدرس.

معادلة حكمتها صلات متعددّة منها توّجه قطاعات اجتماعية من شرق النهر للعمل في المنشآت الاقتصادية التي بناها العثمانيون ثم البريطانيون في غربه، وتلقّي بعضها التعليم هناك، حيث تأسّست العديد من المعاهد والكليات في المدن الفلسطينية، ليدرّسوا لاحقاً فيها، إلى جانب العلاقات الدينية التي انعكست بشكل أوثّق لدى المسيحيين في الضفتين اللتين جمعتهما كنيسة أرثوذكسية واحدة ولا تزال، وانتقل الكثير من أبنائهم للتعلّم في المدارس الدينية في فلسطين حتى حلول النكبة.

توافقت مصالح الناس واحتياجاتهم المعيشية مع توجهاتهم ومبادئهم الوطنية، دون استدعاء لأيّة تسويغات سياسية لها، وانخرط الكتّاب والمثقفون في التعبير عن تلك المناخات باعتبارهم جزءاً من مشهد ثقافي موحّد في هواجسه وقضاياه وموضوعاته، كما يبرزه أرشيف الصحافة الفلسطينية الذي يحتفظ بمقالات وقصائد لكتّاب البلدين، حيث تتجاور أسماء عرار (عمل مراسلاً لصحيفة "الكرمل" الحيفاوية) وأديب عباسي وعبد الحليم عباس مع كتابات خليل السكاكيني وإبراهيم طوقان وبولس شحادة، وكانت قد شهدت توسّعاً وانتظاماً في النشر منذ العشرينيات قياساً بنظيراتها الأردنية.

في أوراق الروائي والكاتب الأردني عقيل أبو الشعر (1890 - غير معروف مكان وتاريخ الوفاة)، تحضر تفاصيل انتسابه خلال العقد الثاني من القرن العشرين إلى جمعية "من أجل فلسطين" التي أنشئت حينها في باريس، ووضع إشارة لها على غلاف روايته "القدس حرّة" (1921)، والتي ترجمها عدنان كاظم من الإسبانية وصدرت عام 2012، وتتناول مسألة الهجرات اليهودية وتهويد القدس من وجهة نظر بطلها الصحافي القادم من الأردن.

نصل إلى الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، الذي شكّل نقطة فاصلة في وعي أبناء الجغرافيا الممتدّة على ضفتين، يوضّحها كتّاب أردنيون كانوا يعلمون ويسكنون فلسطين حينذاك، ومنهم المؤرّخ روكس بن زائد العزيزي (1903 - 2004) الذي يروي بألم وحسرة في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه في أيامه الأخيرة عن وقائع عاشها خلال الأشهر التي سبقت النكبة، وكيف مارست العصابات الصهيونية الإرهاب والتقتيل كما في مجزرة باب العمود التي فقَد خلالها مقدسيون أطفالهم الذين تقطّعت أشلاؤهم في المكان، منهياً شهاداته بالحديث عن مكتبته ومخطوطاته التي بقيت هناك، عائداً من دونها إلى مدينته مادبا.

المصير ذاته كان مصير مكتبة وأوراق الباحث يعقوب العودات، الملقّب بالبدوي الملثّم، (1909 - 1971)، والذي كان يعمل في قلم الترجمة التابع للسكرتارية العامة لحكومة فلسطين، قبل أن يغادرها قسراً ويعود إلى مدينته الكرك، ويتكرّر الأمر مع غيره ممن عملوا في الصحافة والتعليم والأجهزة الإدارية خاصة في القدس، ومنهم الناقد والمترجم عيسى الناعوري (1918 - 1985) الذي أُجبر على مغادرتها والعودة إلى عمّان، ليختبر تحوّلاً جذرياً انعكس على رؤيته وكتاباته الإبداعية.

تملّك الناعوري غضب لم يبرحه حتى رحيله، ليهجر آراءه الإنسانوية الداعية إلى الإخاء والوئام وهجاء الحرب بفعل نزعته الرومانسية بعد النكبة، ويواجه الهزيمة التي لم يخترها منذ اللحظة الأولى كما دوّن في قصائد منشورة عام 1949، منها "دموع صامتة"، التي يقول فيها: أي شيء إليك يا صاح أُهدي/ أنا في موطني غريبٌ أُعاني/ لست أُهدي إليك غير فؤادي/ كلّما عاود اذكار المعاني/ هاجَهُ الشوقُ والحنينُ لها/ ذكريات مضت ولم يبق منها/ وطن كان للأسود عريناً/ مزقوه وشردوا ساكنيه/ أسلموه إلى العدو رخيصاً/ لا تسلني يا صاحبي عن قريضي/ نغمي عطلت صداه الليالي.

وقد أهدى أبياته المتفجّعة هذه إلى صديقه الفلسطيني عبد القادر الجاعوني، قبل أن يوثّق بالسرد وقائع ما جرى عام 1948، في روايته "بيت وراء الحدود" (1959)، الذي يصوّر مأسأة عائلة فلسطينية هُجّرت من مدينة يافا، مستفيضاً في حواراتها ومونولوغات أبطالها الداخلية، ليختار منهم كريم بطلاً لروايته "جراح جديدة" (1967).

ملاحظة أساسية تحضر عند مراجعة الأدب الأردني خلال عقديْ الخمسينيات والستينيات، تتمثّل في أن نضوج السرد القصصي والروائي تأسّس على ثيمة محورية تتعلّق بالنكبة وتصوير تداعياتها وجروحها التي ظلّت مفتوحة بعد تلقّي الفاجعة الثانية، خلال أقلّ من عقدين، في حزيران/ يونيو عام 1967، بل تعمّقت أكثر مع احتلال العدو الصهيوني ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية) التي كانت جزءاً من الدولة الأردنية حتى تلك اللحظة، وانتقال مئات آلاف النازحين من غرب الوطن الواحد إلى شرقه.

بموازاة ذلك، خلقت هزيمة حزيران غضباً جديداً قاد الأردنيين (بجذورهم من الضفتين) إلى الرد عليها سواء بانخراطهم في الأحزاب والفصائل في أطرها الأردنية أو تلك التي انضوت تحت "منظّمة التحرير الفلسطينية"، وأتت تعبيراتهم السياسية والفكرية والثقافية لمواجهة تلك الأسئلة الملحّة والحارقة التي ألحّت عليهم جميعاً، وربما عبّر عنها تيسير سبول بتكثيف وحرقة في روايته "أنت منذ اليوم" (1968)، حيث كتب: "وكان هناك مذياع في كلّ مكان، ولم أفهم لماذا يجب أن يتكلّم مذيعونا بعد. وخيّل إلي أن المسألة كلّها سؤالٌ واحد: شعبٌ نحن أم حشيّة قشّ يتدرّب عليها هواة الملاكمة، منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير".

أفضت الوقائع إلى أبشع أشكال الاستعمار التي عرفها التاريخ من خلال سياسات الإحلال والتطهير التي مارسها العدو، في ظلّ تواطؤ دولي وتخاذل رسمي عربي عن حقوق الفلسطينيين والعرب، وتغيّرت ثوابت عديدة لدى كثيرين، لكن حقيقة واحدة يبدو من الصعب تجاهلها، وهي أن مستقبل الأردن يحدّده مصير القضية الفلسطينية بعد مرور اثنين وسبعين عاماً، مهما كانت الخيارات المطروحة. لقد كانت النكبة فلسطينية وأردنية معاً.

المساهمون