في تمام الثالثة والنصف من صباح كل يوم يترك المقدسي إسحق الجبريني فراشه متجهاً نحو السلالم المتجهة إلى معصرة السمسم، التي ورثها هو وأخوه عن والده، ليباشر أعمال عصر 350 كيلوغراماً من سمسم "الخُميرَة" المستورد من إثيوبيا، ليصنع منها أنواعاً ثلاثة من الطحينة ونوعين من الحلاوة وزيت السيرج، أو كما يعرف عربياً بالجلجلان أو السليط.
معصرة الجبريني، التي يعود تاريخ وجودها إلى أكثر من 1400 عام، والواقعة في عقبة الشيخ ريحان، هي إحدى المعصرتين الوحيدتين في البلدة القديمة من القدس المحتلة، والتي تبيع إنتاجها من الطحينة البيضاء والحمراء، والطحينة بقشورها، وطحينة حبة البركة، والحلاوة الطحينية والسمسمية وزيت السمسم، بالإضافة إلى الكُسبة، وهي طحينة حمراء خالية من الزيت مفيدة لإدرار الحليب لدى المرضع، إلى المستهلك مباشرة.. لتكون بنمط بنائها القديم والقباب التي تعلوها إحدى معالم المدينة الشاهدة على عراقتها.
يقول إسحق لـ"العربي الجديد": "بدأ والدي العمل هنا بعمر الست سنوات عاملاً مأجوراً، ليتجند بعدها في صفوف الجيش العثماني ويشارك في الحرب العالمية الأولى، وما أن أنهى خدمته في الجيش حتى عاد وأصبح شريكاً في المعصرة، ومع احتلال المدينة عام 1967 أصبح المالك الوحيد لها، وبقي يعمل فيها حتى توفي بعمر 105 سنين".
منذ 1400 عام لم يطرأ على طريقة العمل في المعصرة تغييرات تذكر، فالحجر البازلتي الذي جلب من سهل حوران، والفرن البلدي، وأحواض نقع السمسم وفصله عن قشوره وتصفيته ظلت هِيَ هِيَ، ولم تواكب عملية التصنيع التطورات التكنولوجية، باستثناء استخدام الكهرباء، بدلاً من البغال لتدوير رحى الحجر.
يقول الجبريني "أنقع السمسم في الحوض الأول المملوء بالماء وأتركه لمدة عشرين ساعة، أنقله للحوض الثاني مضيفاً 150 كيلو من الملح الطبيعي إلى الماء، فتتم عملية فصل السمسم عن قشوره حيث تطفو حبوب السمسم على السطح وتتجمع القشور بالقاع، وفي حوض الماء الحلو تحدث عملية عكسية، لننتقل بعدها إلى عصره وتجفيفه من المياه ومن ثم طحنه. ولتصنيع الطحينة الحمراء التي يستخرج منها زيت السيرج، أترك السمسم في الفرن لمدة تصل إلى 8 ساعات".
يأتي زبائن المعصرة إليها من كل أرجاء فلسطين. وتتفاوت مبيعاتها حسب الموسم، ففي أيام يبيع الجبريني 20 كيلوغراماً، وفي أيام أخرى يبيع 100، إذ "تزداد المبيعات في شهر رمضان مع سماح الاحتلال للفلسطينيين من سكان مدن الضفة الغربية بالدخول للمدينة، فتجدهم يحرصون على شراء كميات كبيرة من الطحينة والزيت، كونهم لا يضمنون الحصول على تصاريح جديدة، كما تعتبر أيام الجمعة من أفضل أيام البيع".
واقع المعصرة لا يختلف عن الواقع المعاش في المدينة المقدسة وما يعانيه أهلها من تهويد وتنكيل يومي، فتجد الجبريني مجبراً على دفع ضرائب تقدّر بـ20 ألف شيكل (5229 دولاراً) سنوياً، فضلاً عن المصاريف التشغيلية للمعصرة والتي تقدر بـ600 شيكل يومياً (157 دولاراً)، ويشكو كغيره من التجار تقلص المبيعات نتيجة الحصار المفروض على القدس. كما أنه بات مجبراً على تلبية طلب وزارة الصحة في سلطات الاحتلال بتسجيل خط إنتاج للمعصرة، وهذا يعني إعادة ترخيصها، بالرغم من كونها من العقارات المحمية. ليس هذا فحسب، بل بات موضوع عدم تجديد رخص تشغيل أفران الكعك القدسي، الذي يعتبر السمسم أحد أهم مكوناته، خطراً يؤرق الجبريني ويهدد صناعته، ولسان حاله يقول: "نحن هنا وسنبقى شوكة في حلوقهم"!
لا يقتصر عمل الجبريني على عصر السمسم وتصنيعه، فخبرته، وما ورثه عن أبيه، يؤهلانه ليكون خبيراً ليس فقط بصناعة السمسم، بل باستخداماته، فتراه ينصح زبائن "طحينة الجبريني" بإبقائها بعيداً عن الماء منعاً لتلفها، وذلك نظراً لعدم إضافته لأي من المواد الحافظة. كما ينصحهم باستخدام الطحينة لتحضير حاجتهم، خصوصاً المقبلات المضاف إليها الطحينة، منعاً لتأكسدها بسبب وجود الليمون، إلى جانب عدم الاحتفاظ بها لأكثر من ثلاثين ساعة. أما طحينة "القزحة" أو حبة البركة، فهي بحسبه شفاء من كل داء. وينصح أيضاً باستخدام منقوع السمسم في علاج بعض الأمراض الجلدية.
أدخل الجبريني صناعة الدبس إلى عمله، وذلك بعد وراثته عدداً من أشجار العنب تقع في حديقة منزلهم المكوّن من عشر غرف تؤوي اليوم خمس عائلات، وقد استخدم سابقاً كمقراً للمدرسة المحمدية، وقبلها كان مقراً للقنصل الحبشي، في حارة عرفت في القدم بحارة القناصل.
إقرأ أيضا: الفقر يحيي "العنقاريب" و"الزير" و"الكارو" في السودان
معصرة الجبريني، التي يعود تاريخ وجودها إلى أكثر من 1400 عام، والواقعة في عقبة الشيخ ريحان، هي إحدى المعصرتين الوحيدتين في البلدة القديمة من القدس المحتلة، والتي تبيع إنتاجها من الطحينة البيضاء والحمراء، والطحينة بقشورها، وطحينة حبة البركة، والحلاوة الطحينية والسمسمية وزيت السمسم، بالإضافة إلى الكُسبة، وهي طحينة حمراء خالية من الزيت مفيدة لإدرار الحليب لدى المرضع، إلى المستهلك مباشرة.. لتكون بنمط بنائها القديم والقباب التي تعلوها إحدى معالم المدينة الشاهدة على عراقتها.
يقول إسحق لـ"العربي الجديد": "بدأ والدي العمل هنا بعمر الست سنوات عاملاً مأجوراً، ليتجند بعدها في صفوف الجيش العثماني ويشارك في الحرب العالمية الأولى، وما أن أنهى خدمته في الجيش حتى عاد وأصبح شريكاً في المعصرة، ومع احتلال المدينة عام 1967 أصبح المالك الوحيد لها، وبقي يعمل فيها حتى توفي بعمر 105 سنين".
منذ 1400 عام لم يطرأ على طريقة العمل في المعصرة تغييرات تذكر، فالحجر البازلتي الذي جلب من سهل حوران، والفرن البلدي، وأحواض نقع السمسم وفصله عن قشوره وتصفيته ظلت هِيَ هِيَ، ولم تواكب عملية التصنيع التطورات التكنولوجية، باستثناء استخدام الكهرباء، بدلاً من البغال لتدوير رحى الحجر.
يقول الجبريني "أنقع السمسم في الحوض الأول المملوء بالماء وأتركه لمدة عشرين ساعة، أنقله للحوض الثاني مضيفاً 150 كيلو من الملح الطبيعي إلى الماء، فتتم عملية فصل السمسم عن قشوره حيث تطفو حبوب السمسم على السطح وتتجمع القشور بالقاع، وفي حوض الماء الحلو تحدث عملية عكسية، لننتقل بعدها إلى عصره وتجفيفه من المياه ومن ثم طحنه. ولتصنيع الطحينة الحمراء التي يستخرج منها زيت السيرج، أترك السمسم في الفرن لمدة تصل إلى 8 ساعات".
يأتي زبائن المعصرة إليها من كل أرجاء فلسطين. وتتفاوت مبيعاتها حسب الموسم، ففي أيام يبيع الجبريني 20 كيلوغراماً، وفي أيام أخرى يبيع 100، إذ "تزداد المبيعات في شهر رمضان مع سماح الاحتلال للفلسطينيين من سكان مدن الضفة الغربية بالدخول للمدينة، فتجدهم يحرصون على شراء كميات كبيرة من الطحينة والزيت، كونهم لا يضمنون الحصول على تصاريح جديدة، كما تعتبر أيام الجمعة من أفضل أيام البيع".
واقع المعصرة لا يختلف عن الواقع المعاش في المدينة المقدسة وما يعانيه أهلها من تهويد وتنكيل يومي، فتجد الجبريني مجبراً على دفع ضرائب تقدّر بـ20 ألف شيكل (5229 دولاراً) سنوياً، فضلاً عن المصاريف التشغيلية للمعصرة والتي تقدر بـ600 شيكل يومياً (157 دولاراً)، ويشكو كغيره من التجار تقلص المبيعات نتيجة الحصار المفروض على القدس. كما أنه بات مجبراً على تلبية طلب وزارة الصحة في سلطات الاحتلال بتسجيل خط إنتاج للمعصرة، وهذا يعني إعادة ترخيصها، بالرغم من كونها من العقارات المحمية. ليس هذا فحسب، بل بات موضوع عدم تجديد رخص تشغيل أفران الكعك القدسي، الذي يعتبر السمسم أحد أهم مكوناته، خطراً يؤرق الجبريني ويهدد صناعته، ولسان حاله يقول: "نحن هنا وسنبقى شوكة في حلوقهم"!
لا يقتصر عمل الجبريني على عصر السمسم وتصنيعه، فخبرته، وما ورثه عن أبيه، يؤهلانه ليكون خبيراً ليس فقط بصناعة السمسم، بل باستخداماته، فتراه ينصح زبائن "طحينة الجبريني" بإبقائها بعيداً عن الماء منعاً لتلفها، وذلك نظراً لعدم إضافته لأي من المواد الحافظة. كما ينصحهم باستخدام الطحينة لتحضير حاجتهم، خصوصاً المقبلات المضاف إليها الطحينة، منعاً لتأكسدها بسبب وجود الليمون، إلى جانب عدم الاحتفاظ بها لأكثر من ثلاثين ساعة. أما طحينة "القزحة" أو حبة البركة، فهي بحسبه شفاء من كل داء. وينصح أيضاً باستخدام منقوع السمسم في علاج بعض الأمراض الجلدية.
أدخل الجبريني صناعة الدبس إلى عمله، وذلك بعد وراثته عدداً من أشجار العنب تقع في حديقة منزلهم المكوّن من عشر غرف تؤوي اليوم خمس عائلات، وقد استخدم سابقاً كمقراً للمدرسة المحمدية، وقبلها كان مقراً للقنصل الحبشي، في حارة عرفت في القدم بحارة القناصل.
إقرأ أيضا: الفقر يحيي "العنقاريب" و"الزير" و"الكارو" في السودان