وقد تولى رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، أمس الثلاثاء، إعلان اكتمال الاستعدادات العسكرية للمعركة المؤجلة منذ عام 2015 بعد أن منع الواقع المذهبي تقدم مقاتلي حزب الله باتجاه البلدة ذات الأغلبية السنية وجرودها من الجانب السوري في إطار معركتهم لإعادة بسط سلطة النظام السوري على منطقة القلمون السورية وإنهاء حالة الانتشار العسكري لمسلحي التنظيمين على حدود لبنان. وأعلن الحريري، خلال كلمة ألقاها أمام مجلس النواب، أمس الثلاثاء، أن "الجيش اللبناني سينفذ عملية في منطقة جرود عرسال"، ليعاكس الوقائع الميدانية التي تؤكد أن مقاتلي "حزب الله" باتوا منتشرين في البلدات اللبنانية الحدودية المجاورة لعرسال وفي المناطق السورية المحيطة بها، وأنهم هم من سيخوض المعارك بإمرة غرفة عمليات عسكرية حزبية. ووصف الحريري، في كلمته، العملية المُفترضة بأنها "ستكون مدروسة" وأن "الحكومة تمنح الجيش حرية التصرف"، نافياً وجود اتفاق مع النظام السوري لتنفيذ العملية.
وقد دحضت غارات طيران النظام السوري المُكثفة، والمستمرة منذ أسبوع، على الأراضي اللبنانية، في جرود عرسال، وجود أي نية تنسيق من الجانب السوري أو من جانب "حزب الله" مع الجيش اللبناني المُنتشر على الحدود اللبنانية - السورية من خلال فوجين، يتوليان عزل البلدات اللبنانية عن الجرود، ومكافحة انتشار عناصر "داعش" و"فتح الشام" في مخيمات اللاجئين.
ولبلدة عرسال (316.9 كيلومتراً مربعاً، ما يعادل 5 في المائة من مساحة لبنان)، حساسية طائفية وجغرافية كبيرة لطالما أزعجت حزب الله ومشاريعه السياسية ــ العسكرية. فهي أكبر بلدة جغرافياً في لبنان، وذات أغلبية مذهبية سنية كاملة تقع على حدود لبنان الشرقية مع سورية في منطقة البقاع الشمالي ذات الأغلبية المذهبية الشيعية، وتربطها حدود طولها 50 كيلومتراً مع الحدود السورية. وقد استقبلت البلدة منذ عام 2011 عشرات آلاف اللاجئين السوريين من بلدات ومدن منطقة القلمون المجاورة، في حين كان الآلاف من مقاتلي "حزب الله" يعبرون الحدود باتجاه سورية من جرود البلدات المجاورة لعرسال بهدف دعم النظام السوري ومساعدته على استعادة السيطرة على مناطق واسعة كانت تحت سيطرة الجيش السوري الحر.
كما استغلت التنظيمات المتطرفة عدم ضبط الحدود من قبل الجيش اللبناني، رغم المناشدات المحلية من عرسال، بتمرير سيارات مفخخة وانتحاريين من جرود البلدة إلى داخل الأراضي اللبنانية. وهو ما زاد من حالة الاحتقان الطائفي والمذهبي بين أهالي البقاع الشمالي، وتم قطع الطريق الوحيد المؤدي إلى بلدة عرسال مراراً، مع منع إدخال المؤن الغذائية إليها بحجة وصولها إلى أعضاء "داعش" و"فتح الشام" في الجرود.
وتزامنت هذه الممارسات مع حملة مركزة قادتها مُختلف القوى السياسية الداعمة للنظام السوري في لبنان، استهدفت شيطنة اللاجئين السوريين، ووصف مخيمات اللجوء العشوائية المُقامة داخل عرسال وفي جرودها بأنها مصانع ومستودعات للأسلحة وللانتحاريين، في تجاهل مُتعمد للمناشدات المُتكررة التي أطلقها أهالي عرسال والجميعات الإغاثية لتنظيم هذه المخيمات، ووضعها تحت إشراف السلطات اللبنانية بشكل مباشر. كما ساهم غياب الإنماء عن بلدة عرسال وافتقارها للبنى التحتية إلى مضاعفة أزمة إقامة اللاجئين فيها. وانعكست التصريحات من خلال ارتفاع حدة العنصرية اللبنانية تجاه اللاجئين في كافة المناطق اللبنانية، بعد أن تزاوجت تصريحات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، مع تصريحات قادة "التيار الوطني الحر" الرافضة لوجود اللاجئين السوريين في لبنان. كما تم الضغط على اللاجئين خلال العامين الماضيين للعودة إلى مناطقهم التي يسيطر عليها النظام السوري، من خلال وقف جمع النفايات من المخيمات تارة، ووقف سحب المياه المبتذلة من حُفر الصرف الصحي المحفورة قرب المخيمات تارة أخرى. وبالفعل تم تنسيق نقل بضع مئات من اللاجئين إلى بلدة عسال الورد السورية خلال العام الحالي، بعد أن نسّق "حزب الله" هذه العملية مع فصيل سوري مُقرب من النظام وهو "سرايا أهل الشام"، ومع القيادات المدنية والدينية للاجئين في بلدة عرسال. ومرة جديدة تجاوزت الوقائع الميدانية التصريحات السياسية اللبنانية الرافضة للتنسيق مع النظام السوري، إذ تولى الجيش اللبناني تنسيق انتقال اللاجئين إلى آخر نقطة من الأراضي اللبنانية، قبل أن يستقبلهم عناصر الجيش السوري و"سرايا أهل الشام" على الجانب السوري من الحدود، ضمن عملية التنسيق غير المباشر بين الطرفين لتأمين الانتقال.
20 ألف لاجئ في منطقة العمليات
وبعدما امتدت رقعة العمليات خلال الحملة العسكرية التي قادها "حزب الله" عام 2015 على مساحة حوالي ألف كيلومتر مربع، تكاد تخلو بالمطلق من وجود المدنيين، تُقدر مساحة المعركة المُرتقبة بحوالي 300 كيلومتر مربع وتضم إلى جرود بلدة عرسال اللبنانية جرود بلدتي جراجير وفليطة السوريتين. وتتفاوت التقديرات بشأن عدد مسلحي "داعش" و"فتح الشام" في المنطقة بين 800 و1500، ينتشرون على بعد لا يتجاوز 10 كيلومترات عن تجمعين كبيرين للاجئين السوريين يقعان عند أطراف بلدة عرسال وهما مخيما النور وقارية اللذين داهمهما الجيش اللبناني قبل أسبوعين، في عملية أسفرت عن مقتل طفلة سورية وتفجير خمسة انتحاريين لأنفسهم، وجرح سبعة عسكريين، وتوقيف حوالي 400 لاجئ قُتل 10 منهم تحت التعذيب (اعترف الجيش بموت أربعة فقط، بسبب تدهور وضعهم الصحي).
ويقدر مسؤولو إغاثة محليون تحدثوا لـ"العربي الجديد" عدد المدنيين في جرود البلدات الثلاث بحوالي 20 ألف مدني. وهو ما يطرح مخاوف من احتشادهم للدخول إلى بلدة عرسال خلال المعركة التي لم يُعلن الحزب بعد موعد انطلاقتها. كما يخشى أهالي عرسال من الأسوأ وهو نجاح مقاتلي التنظيمين في التسلل إلى داخل البلدة، وتحول شوارع عرسال إلى ساحة معركة كما حدث عام 2014، عندما اخترق المسلحون مواقع الجيش عند أطراف البلدة وانتشروا فيها طوال أيام. ومع وجود غطاء سياسي رسمي من مُختلف السلطات، ومنها رئاسة الحكومة التي تُمثل المسلمين السُنة في لبنان ضمن نظام المحاصصة الطائفية، فهو يعني أن قرار حسم المعركة سيتجاوز أولوية تجنيب عرسال وأهلها مخاطر المعركة.
علماً أن عشرات المدنيين من لاجئين ومواطنين قضوا خلال معركة عام 2014، وقد وثقت عشرات المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية ارتكاب عناصر الجيش اللبناني مخالفات مُتعددة طاولت المدنيين، ومنها التعذيب الممنهج خلال عملية التوقيف وبعدها، وقصف المخيمات بشكل مباشر.
وفي حديث لـ"العربي الجديد" رفض العضو المفصول من كتلة الرئيس سعد الحريري النيابية، النائب خالد الضاهر، "التضحية بعناصر الجيش اللبناني في معركة خارجية يخوضها حزب محلي لمصلحة النظامين الإيراني والسوري". ووصف الضاهر قرار الزج في الجيش في هذه المعركة بأنه "عمالة وارتهان واعتراف بالنظام السوري"، مُحذراً من تراكم الخطوات التي تضرب مصداقية الجيش اللبناني "وهي التي أدت سابقاً إلى قرار السعودية تجميد الهبة المُقرة للجيش وقيمتها أربعة مليارات دولار أميركي" وليس آخرها موت اللاجئين الموقوفين. ودعا النائب الضاهر إلى "تحقيق شفاف في ممارسات الجيش لحمايته أولاً". وكان الضاهر، قد دعا خلال كلمة في مجلس النواب، إلى إقالة وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف، على خلفية مقتل اللاجئين، وهو ما أدى إلى سجال بينه وبين عضو "تكتل التغيير والإصلاح" إميل رحمة. ويُشكل تراجع السلطات الرسمية عن مسؤوليتها الإنمائية أولاً تجاه عرسال، ثم المسؤوليات الأمنية والعسكرية في حماية الحدود اللبنانية تكراراً للنموذج العراقي الذي سمح بتأسيس مليشيات طائفية تتجاوز سلطتها وقوتها قوة أجهزة الدولة.