وأخلى تنظيم داعش المدينة من عائلات مقاتليه، منذ يومين، ونقلها إلى مدينة الباب في ريف حلب الشمالي، وإلى مدينة الرقة، معقله الرئيسي شرقي سورية، في مؤشر إلى نيّته خوض معارك دفاع شرسة عن آخر معقل له على الحدود التركية. وخسر التنظيم، منذ أيام، معقلَين هامَين في ريف حلب، هما مدينة منبج التي باتت تحت سيطرة قوات "سورية الديمقراطية" التي يشكّل مقاتلون أكراد قوامها وقيادتها، وبلدة الراعي التي سيطرت عليها فصائل المعارضة، الأربعاء الماضي، وهي تقع في منتصف المسافة بين أعزاز وجرابلس على الشريط الحدودي.
تقع جرابلس إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب بنحو 120 كيلومتراً. سيطر عليها التنظيم مطلع عام 2014، إبان الحملة العسكرية الكبرى التي قام بها التنظيم وسيطر من خلالها على معظم مدن وحواضر ريف حلب الشرقي، والشمال الشرقي.
ولا إحصائيات رسمية يمكن الرجوع إليها لعدد سكان المدينة، لكن الصحافي السوري فراس محمد، أحد أبناء جرابلس، يؤكد في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ سكان جرابلس يبلغ عددهم تقريباً نحو 25 ألف نسمة، إضافة إلى 75 ألفاً في ريفها. ويشير إلى أن هناك نحو 60 قرية تتبع إدارياً للمدينة، موضحاً أن نحو 60 في المائة من سكان منطقة جرابلس هم عرب، في حين يشكل التركمان القومية الثانية، فيما لا يشكّل الأكراد إلا نسبة بسيطة، إذ تتبع لجرابلس قريتان كرديتان يتكلم سكانهما اللغة التركية، وفق محمد.
ويوضح محمد أن قوات "سورية الديمقراطية" تتمركز إلى الجنوب من جرابلس بنحو 15 كيلومتراً، إثر تقدمها باتجاه المدينة بعد سيطرتها على منبج. كما توجد قوات كردية على الطرف الشرقي من نهر الفرات مقابل جرابلس بنحو كيلومترين، في حين تبعد فصائل المعارضة مسافة نحو 40 كيلومتراً إلى الغرب من مدينة جرابلس. ويعتبر الصحافي أنّ هناك "سباقاً محموماً" بين القوات الكردية والمعارضة السورية للوصول إلى مدينة جرابلس، مشيراً إلى أن للمدينة أهمية استراتيجية كبرى، ومصيرها يحدد مستقبل ريف حلب الشمالي، تبعاً للقوة التي تسبق إليها.
ودفع سيناريو الحصار الذي فُرض على مدينة منبج، وما تسبب من فواجع إنسانية، المدنيين في جرابلس إلى الخروج منها باتجاه القرى القريبة، بانتظار ما ستسفر عنه المعارك المتوقع اندلاعها قريباً. وبات من الواضح أن التنظيم يدرك أن تقدُّم "سورية الديمقراطية" باتجاه مدينة الباب يعني حصار قواته في مدينة جرابلس، وقطع خطوط إمداده بشكل كامل، وهو ما جعله يُخرج عائلات مقاتليه، وبعض سلاحه الثقيل، معتمدا على تحصين المدينة بالألغام. وتشير مصادر محلية لـ"العربي الجديد" إلى أن التنظيم سوّر المدينة بنحو 20 ألف لغم أرضي، خصوصاً على سرير نهر الفرات والشريط الحدودي، ما قد يصعّب مهمة أي قوة مهاجمة.
ويتوقع مراقبون أن يقاتل أفراد التنظيم بـ"شراسة"، إلا إذا حدثت مستجدات عسكرية ربما تدفعهم إلى إخلاء المدينة من دون قتال، معتمداً على استراتيجيته المعروفة في الكرّ والفرّ عند اختلال الموازين العسكرية لصالح مهاجميه. ويطرح هؤلاء المراقبون سيناريو آخر، يكمن في دفع هذه المستجدات العسكرية القوات الكردية للصدام مع المعارضة، ما يعني استنزافاً دموياً للطرفين المعاديين له.
وبدأ الصراع يحتدم أكثر في الشمال السوري إثر استيلاء "سورية الديمقراطية" على مدينة منبج، إذ عبرت قوات كردية، للمرة الأولى، إلى غرب نهر الفرات في تجاوز واضح لـ"الخطوط الحمراء" التركية. وكررت أنقرة رفضها لعبور الأكراد النهر، في مناسبات عدة، مشيرة إلى أنها ستتعامل مع أي قوات كردية غرب النهر على أنها "معادية". ويبدي الأتراك خشية واضحة من تشكيل إقليم كردي على حدودهم الجنوبية المتاخمة لمناطق الأكراد في تركيا، ما قد يدفع هؤلاء إلى التمرد، والسعي إلى تشكيل إقليم مشابه.
ولا يخفي أكراد سورية سعيهم إلى السيطرة على مدينة جرابلس على الرغم مما قد يجره هذا الأمر من عداء تركي. فمن دون السيطرة على أعزاز وجرابلس يبقى الإقليم الكردي الذي يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي إلى تشكيله شمالي سورية غير مكتمل، وغير متصل جغرافياً، إذ تفصل مدينتا أعزاز وجرابلس بين "مقاطعات الإقليم" وهي: عفرين، وعين العرب التي يطلق عليها الكرد اسم "كوباني"، ومقاطعة الجزيرة في محافظة الحسكة أقصى شمال شرقي البلاد.
وفي هذا الصدد، يؤكد القيادي الكردي السوري، ألدار خليل، لـ"العربي الجديد" أن القوات الكردية يهمها "فك الحصار المفروض على مدينة عفرين (ذات أغلبية كردية شمال غربي حلب، وتسيطر عليها قوات كردية منذ ثلاث سنوات). ويضيف أن هذا الأمر "يستوجب أن نفتح طريقاً بين كوباني (عين العرب) وعفرين، حيث إن جرابلس تقع بين المنطقتين".
ويرى مراقبون أن المنطقة الواقعة بين مدينتي جرابلس وأعزاز تشكّل أهمية كبرى بالنسبة لتركيا، إذ تعمل إلى تحويلها إلى "منطقة آمنة" تستوعب آلاف النازحين السوريين، الأمر الذي يخفف العبء الكبير الملقى على عاتقها في هذا الشأن.
من جانبها، تؤكد المعارضة السورية المسلحة أنها بصدد التحضير لعمل عسكري وصفته بـ"الكبير" للسيطرة على مدينة جرابلس، خلال الأيام القليلة المقبلة، إذ يؤكد المقدم أبو حمود، وهو أحد القادة الميدانيين في الفرقة 13 التي شاركت في انتزاع السيطرة على بلدة الراعي، أن "لمدينة جرابلس أهمية استراتيجية كونها المنفذ البري إلى تركيا. ويشير في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "السيطرة على المدينة من شأنها تقليم أظافر مشروع خبيث يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بواسطة ذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب لتقسيم سورية"، على حد تعبيره.
ويشدد أبو حمود على أن المعارضة السورية تقف مع أكراد سورية ضد ممارسات الوحدات الكردية اتجاههم، مضيفاً أنّ "الأكراد هم أهلنا، وحمايتهم واجب". ولا يستبعد القيادي أن يسهّل التنظيم دخول قوات كردية إلى مدينتَي الباب وجرابلس، متوقعاً صراعاً بين فصائل المعارضة وهذه القوات، في حال تقدمت باتجاه مدينة جرابلس. ويؤكد أن المعارضة تتقدم من بلدة الراعي باتجاه جرابلس، لافتاً إلى قدرة فصائل المعارضة على انتزاع السيطرة على المدينة، ومرحّباً بأي مساندة تركية على هذا الصعيد "بما يصب لصالح الثورة السورية".