تتنقّل عزيزة بنت محمد لمين بين مكاتب بلدية عرفات في العاصمة نواكشوط، باحثة عن الموظف المسؤول عن ختم أوراقها، والتصديق على الشهادات التي تحتاج إليها لاستكمال ملف علاج زوجها في الخارج على نفقة الدولة. ليس لديها كثير من الوقت، فزوجها يعاني من مرض عضال. وكل يوم يمر من دون إجراء العملية التي يحتاج إليها قد يقضي على أمله بالشفاء، علماً أنه المعيل الوحيد لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد.
تأملُ عزيزة إنهاء معاملاتها والحصول على التوقيعات المطلوبة على الأوراق وأخذها إلى وزارة الصحة، لنقل زوجها إلى المغرب للعلاج. تبدو مكاتب بلدية حي عرفات، أحد أكبر الأحياء الشعبية في نواكشوط، شبه خالية من موظّفيها الرئيسيين. تقول لمين (42 عاماً) إنها "الحادية عشرة صباحاً وما زالت المكاتب فارغة. لا أعرف متى يصلُ الموظفون. حضرت إلى هنا الساعة التاسعة صباحاً. هناكَ أوراقٌ كثيرة علي الحصول عليها قبل الانتقال إلى مقر وزارة الصحة".
تُعدّ المكاتب الفارغة أزمة حقيقية في البلاد، وتنعكس على مختلف إدارات القطاع العام، فيما يلتزمُ موظفو القطاع الخاص بدوامهم. وفي غياب الراقبة وانتشار الفوضى، يبقى المواطن الضحية الأولى، علماً أن همّ الموظفين الوحيد هو تقاضي رواتبهم، وتخليص معاملات كل من يدفع لهم، حتى لو كان ملفه غير كامل.
تتمنّى لمين ألّا يضيع يوم آخر من دون أن تتمكّن من إنهاء ملف زوجها. تقول: "في إحدى المرات، ذهب شقيقي لإنهاء المعاملات، فأخبروه أن من الضروري أن يحضر الشخص المعني بالملف أو أحد أقاربه من الدرجة الأولى. وحين أتيت، لم أجد أحداً". تشير إلى أن هذه المرة الأولى التي تسعى فيها إلى إنهاء معاملة إدارية، فزوجها كان يتكفّل بكل شيء.
على مقربة من الباب الرئيسي للبلدية، يجلس الحارس الذي يعدّ كاتم أسرارها، وربما الموظف الوحيد الذي يحترم دوامه. يرشد المراجعين ويواسي الغاضبين بسبب الإهمال الإداري وغياب الموظفين. وبين الحين والآخر، يتوسط لدى الموظفين لإنهاء معاملات المواطنين. إنها حرفة "السمسرة" التي لم تسلم منها حتى المؤسسات والدوائر الرسمية، لتزيد من معاناة المواطنين وتزيد من كلفة إنهاء المعاملات. فالشعار المتداول هو "ادفع أكثر تحصل على خدمة أسرع".
إلا أن بعض المواطنين يرفضون الخضوع لهذا "الابتزاز" أو أنه لا قدرة لهم على دفع رشوة. لكن ضيق الوقت، وإمعان الموظفين في تأجيل إنهاء المعاملات، يضطر البعض إلى الاستسلام ودفع رشوة أو هدية كما يسميها محمد عالي ولد الزين (37 عاماً)، الذي كان ينتظر تسلّم أوراق لبناء مسكن له. يقول: "بالنسبة لي، هذه هدية أقدمها لفتح الأبواب الموصدة وإخراج الأختام من الأدراج". يشير إلى أن "الدولة وعدت مراراً بتنفيذ القوانين، ومحاربة الرشوة والمحسوبية، وإشراك المواطنين في خطة تطوير الإدارات، وتعيين موظفين أكفاء في مراكز القرار والمسؤولية. لكن شيئاً من هذا لم يتحقق".
عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، بدا طابور المواطنين طويلاً جداً. كان الجميع يتساءلون عن أماكن تواجد الموظفين المسؤولين عن التوقيعات. وبدت مكاتب البلدية غير المؤهّلة لاستقبال أعداد كبيرة من المراجعين كخلية نحل. عند الساعة الواحدة ظهراً، بدأ الموظفون الرئيسيون يتوافدون على مكاتبهم. وعادة ما يلجأُ هؤلاء إلى أساليب عدة للتهرّب من أداء واجباتهم. يدخل البعض إلى مكاتبهم من أبواب خلفية، فيما يضع آخرون أغراضهم الشخصية مثل السترة والمفاتيح وأحياناً كوب الشاي على المكتب ويغادرون. وحين تأتي لجان المراقبة، أو يثور المراجعون، يردّ الحارس بأن الموظف سيعود بعد قليل، أو أن ظرفاً طارئاً دفعه للمغادرة، ويفتح المكتب ليتأكد من وجود علبة السجائر والمفاتيح والسترة وكوب الشاي.
أمامَ كثرة المراجعين، يعمدُ مساعد موظف الاستقبالات إلى فرض "طابور طويل" يؤدي إلى تدافع وخلافات حول الأسبقية، ما يدفع بعض المراجعين إلى التخلي عن أمكنتهم في الطابور، والعودة في يوم آخر.
وتتباين ردود أفعال الخارجين من مكاتب الموظفين بعد انتهاء معاملاتهم. منهم من تنفس الصعداء أخيراً بعد حصوله على التواقيع التي يحتاج إليها، على غرار عزيزة بنت محمد لمين. فيما لم يستطع آخرون إنهاء معاملاتهم لأسباب متعددة، مثل أحمد ولد الناجي (24 عاماً) وهو طالب جامعي. يقول: "منذ أسبوع وهو يحاول الحصول على أوراقه التي دفعها للموظف المسؤول عن تسلّم الملفات من أجل توقيعها. لكنها ضاعت".
اقرأ أيضاً: موريتانيا تحارب ظاهرة "شبيكو" غير القانونية