لم يعد التسخين العسكري في الشرق الأوكراني مجرد تصعيد مرحلي في الاشتباكات التي بدأت في ربيع 2014، بين انفصاليين في حوض دونباس (لوغانسك ودونيتسك) والحكومة الشرعية، بل بات يهدد فعلياً مسار اتفاقيات مينسك ورباعية النورماندي، الضامنة للمسار السياسي للنزاع. وتشي الأحداث الأخيرة بتحركات ميدانية تهدد مدينة دنيبرو، وخلفها العاصمة كييف، انطلاقاً من التطورات الأخيرة في أفديفكا.
لم تعد مدينة ماريوبول وميناؤها مدار الضجيج العسكري، بل يعتبر ارتفاع حدة القتال في الأسبوعين الأخيرين في أفديفكا مؤشراً مقلقاً. المدينة الواقعة على تخوم دونيتسك، تعتبر من أكثر خطوط التماس اشتعالاً، وتعني السيطرة عليها إمكانية تعبيد الطريق نحو دنيبرو، إحدى أهم المدن الأوكرانية، وخط الدفاع الأخير عن كييف. مع العلم أن الجيش الأوكراني أحكم قبضته عليها باكراً، بعد سيطرة لفترة وجيزة للانفصاليين.
إلا أن الحسابات هذه المرة تبدو مختلفة، بعد ثلاث سنوات على الحرب. الانفصاليون باتوا أكثر خبرة ميدانياً عن ذي قبل، ويمتلكون أسلحة روسية متطورة. كما أن الدعم الغربي، واستطراداً الأميركي لكييف، تراجع في الآونة الأخيرة. الأميركيون في عهد الرئيس دونالد ترامب، باتوا حلفاء أساسيين لروسيا، وإن دانوا "الانتهاكات الأخيرة في أوكرانيا". الفرنسيون دخلوا مرحلة الانتخابات الرئاسية، التي في حال فاز فيها اليمين أو اليمين المتطرف، تنضم باريس إلى واشنطن في التحالف مع موسكو. بريطانيا منكبة على ملف خروجها من الاتحاد الأوروبي. ألمانيا، الأكثر ارتباطاً بالملف الأوكراني، لن تتمكن وحدها من معالجة الوضع، لا لصالح الشرعية الأوكرانية ولا في المواجهة مع الروس، فضلاً عن أن برلين وزعيمتها، أنجيلا ميركل، أمام انتخابات بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول المقبلين، من المفترض أنها ستكون الأصعب للمستشارة الألمانية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي خاضتها.
تبدو النوايا الروسية جلية في هذا الصدد. في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية، أن "55 ألف جندي روسي يتمركزون على الحدود مع أوكرانيا". وأفاد إيغور دولهوف، نائب وزير الدفاع الأوكراني ستيبان بولتوراك، أن "الوجود الروسي في أوكرانيا (الشرق) ارتفع من 5 آلاف إلى 7 آلاف جندي. وأن الوجود العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم بلغ 23 ألف جندي، 9 آلاف منهم على الحدود الإدارية بين شبه الجزيرة وباقي الأراضي الأوكرانية".
وأضاف دولهوف أن "ألف جندي روسي ينتشرون في ترانسنيستريا (منطقة في مولدوفا، جنوب غربي أوكرانيا، أعلنت نفسها جمهورية من طرف واحد ومؤيدة لروسيا)". ونوّه إلى أن "أعمال البنى التحتية العسكرية الروسية في بيلاروسيا، شمالي أوكرانيا، سترتفع بنسبة 80 مرة في عام 2017 عما كانت عليه عام 2016".
وتهتم أوكرانيا بتطورات الوضع في بيلاروسيا، كون الحدود البيلاروسية ـ الأوكرانية لا تبعد عن العاصمة كييف أكثر من 140 كيلومتراً تقريباً.
وبالتزامن مع الاشتباكات العنيفة بين الجيش الأوكراني والانفصاليين، التي أوقعت أكثر من 25 قتيلاً في الأسبوعين الأخيرين، أعلن وزير الدفاع الأوكراني أن "بوارج حربية روسية، أطلقت النار على طائرة (أنطونوف 26) أوكرانية فوق البحر الأسود، مطلع الشهر الحالي"، تحديداً في المثلث البحري بين شبه جزيرة القرم وباقي الأراضي الأوكرانية ورومانيا. وذلك في إشارة إلى نوايا روسية، بإغلاق كامل الواجهة البحرية المطلة على البحر الأسود أمام أوكرانيا، في صورة مشابهة لما حصل في بحر أزوف، المشتق من البحر الأسود، والفاصل بين شبه جزيرة القرم، ومنطقة روستوف الروسية، ويطلّ ميناء ماريوبول الأوكراني عليه.
لم ينتهِ موقف الأطلسي هنا، بل تعدّاه إلى إعلان صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، هذا الأسبوع، بأن "الأطلسي قرر تعليق المفاوضات مع أوكرانيا بشأن إشراكها في منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا، خوفاً من رد فعل روسي سلبي".
وأضافت الصحيفة أن "هناك حالة من الارتباك داخل الحلف، لأن البعض يرى أن ترامب ينوي تعزيز التعاون مع روسيا، بينما يعقّد تصعيد الوضع في شرق أوكرانيا جهود بروكسل وواشنطن بشأن إصلاح العلاقات مع روسيا".
تمرّ أوكرانيا حالياً بأدقّ مرحلة بعد ضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا عام 2014، لكن البلاد لا تريد تكرار مأساة جورجيا، التي رغبت في الانضمام للأطلسي، قبل أن يجتاحها الجيش الروسي، صيف 2008. ولا تستطيع مواجهة تردّي الأوضاع الاقتصادية والسياسية داخلياً، مع تقدّم اليمين المتطرف في مناطق عدة في البلاد، وخوض السلطات الرسمية حروباً سياسية داخلية، حكومية وبرلمانية. الأطلسي والغرب الأوروبي والأميركيون غير مستعدين لدعم أوكرانيا في مواجهة انفصالييها أو روسيا، حتى لو اجتاح الجيش الروسي كييف. وهو ما يعرفه الروس، الذين يعملون لقلب الوضع السياسي في أهم جمهورية كانت ضمن الاتحاد السوفييتي تاريخياً، انطلاقاً من معارك أفديفكا. وإذا نجحت الحسابات الروسية في أوكرانيا، فسينعكس ذلك على دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وأستونيا وليتوانيا أولاً، ثم باقي دول الشمال الأوروبي وشرقه ثانياً.