استناداً إلى تعريف اللحن، بما يتمتّع به من بناءٍ وتماسك نغميّين، لم يجد كثيرون في الشيخ إمام عيسى (1918 ـ 1995) مُلحّناً بهذا المعنى، وإنّما كان بالنسبة لهم رجلاً بارعاً في خلق الثيمات الموسيقية المعبّرة عن معاني الكلمات التي يغنّيها والهوية المصرية؛ ثيمات تتّسم بسهولة حفظها وسلاستها على أذن المستمع.
ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، ليجدوا فيه "هتّيفاً"؛ لأنه مذ اتّخذ من أحمد فؤاد نجم رفيق عمل، نجحا كثنائيّ في تقديم ما يلاقي إجماع طبقات اجتماعية وعمرية مختلفة. فطبيعة قصائد نجم، التي قلّما نعثر فيها على صور مركّبة، إذ تنزع أكثر نحو المُباشرة، ساهمت في تشكيل ألحان تشبه هذه النصوص، ببساطتها ومباشرتها، مثل أغنية "بقرة حاحا".
يمثّل الشيخ إمام صورة المبدع الذي لم يفقد إيمانه بعمله، ولم ينتظر منه مقابلاً سوى "البهدلة" حتى لحظة رحليه؛ ربما لأنه التقط ذلك الإيمان في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، أو لعلّها حكمة الحياة التي يكتسبها الإنسان في عمر معيّن. وبغضّ النظر عن الأسباب، فقد أدرك أن لديه القليل من الوقت ليعمل ويضع بصمته.
هكذا، أنتج صاحب "وهبت عمري للأمل" الكثير، ولعلّ السبب في شعبيته العربية وبقاء أعماله هو أنها تنتمي إلى أي شعب يعاني القمع والظلم، وهذا ما شهدناه في الانتفاضات العربية. إذ كان إمام حاضراً في الميادين، وربّما ساهمت أغانيه في إيقاد الثورات، فهي تجاوزت نقد شخصيات مصرية سياسية وفنية، بل نقدَ النظام السياسي نفسه، المصريّ والعربي، وعلاقته بالمواطن، مداعِبةً حلم الانتماء إلى الوطن العربي كاملاً.
ولا يمكن النظر إلى هذا الانتشار بمعزل عن التوجّه اللحني الذي ميّز أغاني إمام. فيمكن للمستمع أن يلاحظ سلاسة ألحانه والتشابه بين بعض أغانيه، مثل "كلمتين لمصر" و"إيدوا شمعة". كما أن الجمل الموسيقية التالية لبعضها تأتي في صورة الجملة والرد عليها، ما يجعلها سهلة الاستنتاج، وهذا يساهم في خلق شعور بالألفة والتفاعل.
لكن، من جهة أخرى، نجده أحياناً وداخل الأغنية الواحدة يتبع السُلَّميّة، أي سُلّماً موسيقياً صاعداً وهابطاً، وعند الانتقال من نغمة إلى أخرى بعيدة، لا بدّ أن يمر بما بينهما من النغمات، وقد يكون هذا مجهداً للأذن ومملّاً.
وعلى العكس ممّا نسمعه في أجزاء الأغنية الواحدة التي تظهر الفواصل بينها بوضوح، تأتي النقلات، في بعض الأعمال مثل "العزيق"، من طبقة إلى أخرى أو من مقامٍ إلى آخر، مفاجئة، بغضّ النظر مقصودة كانت أم عشوائية. من جهة، هي قد تؤدي غَرض ترجمة الكلمات، لكنها، من جهة أخرى، تظلّ غير مبرّرة موسيقياً تارة، وقد تكون، تارة أخرى، هي سر حلاوة الأغنية.
ومع هذا، فإن هذه البُنى اللحنية تظلّ عائقاً لأذن المستمع، ما يحول دون حفظ العمل أو ترديده بانسياب، أو اعتباره من المفضّلات؛ لأنه سيعتبرها تعالياً عليه، خصوصاً أنّ المستمعين يميلون إلى ما هو سهل الحفظ، وما يمنحهم مساحةً أوسع للتفاعل مع العمل. هنا يكمن سرّ استعادة الشباب في الميادين لبعض أغاني إمام دون غيرها.
كثيراً ما يفاجئنا إمام ببعض الارتجالات التي كان يقوم بها داخل الأغنية، كما فعل في "يا مصر قومي" و"مصر يمّه يا بهية". إلّا أن هذه الارتجالات لم تنجُ أيضاً من فخّ المتوقّع نغميّاً، رغم جمالها. كما أنّها، وهذا الأهم، تُفصح عن تأرجح رغبة الشيخ بين الأداء الغنائي المسرحي (الإخبارية الساخرة بالدرجة الأولى)، والترجمة الدرامية للشعر، والرغبة في التطريب واستعراض القدرات الصوتية. توازن صعب في حالة إمام، كانت فيه الغلبة لمسرَحةِ الأغنية على الأداء.