مظليّون يقفزون من طائرات ورقية

28 ابريل 2016
تشن ليان شينغ / الصين
+ الخط -

يصف توماس هوبز النفس البشرية بأنها تميل بطبيعتها إلى الادّعاء. ورغم الحرب الشعواء التي عرّى بها كبار الليبراليين أفكارَ هوبز، وكمية النقد الضخمة التي نالت آراءه بالتفنيد والمراجعة، فالعالم لا يزال يرضخ لبعض ما قاله الفيلسوف والمنظّر الشهير، ولا زلنا نرى في ما خلَّفه، مؤسس الفكر الواقعي، أفكاراً يصعب تعليل الظواهر بدون الأخذ بها.

إلى جانب تمسكه بعاداته وتقاليده، يحافظ مجتمعنا على صفات تزداد رسوخاً مع الزمن، وتشكِّل حالة "الادعاء" حجر أساسٍ لدى شريحة واسعة لديه، نتيجة ظروفِ سياسية وجغرافية واجتماعية ترعرعنا في كنفها.

نستطيع أن نمايز بين أنواع الادعاء وشدته تبعاً للمستوى الاجتماعي والثقافي للطبقات التي نراقب سلوكها مع أخذ جندر المدعي بالاعتبار، ونحزن حين نرى منجزات الحداثة التي أوصلت نتاجات الثورة الاجتماعية إلى أقصى مناطق الكرة الأرضية بعداً وصغراً، وغيّرت مفاهيم كثيرة، وأشعلت انقلابات عديدة، وهي عاجزة عن الدفع بإسقاط مرض اجتماعي كهذا ما يزال يعيث في مناسباتنا ولقاءاتنا.

يتفنّن الفلاسفةُ في تسجيل عبارات تدعو غالباً إلى التأمل. وتعبّر، بكلمات شبه مفهومة، عن أشياء نعيشها من دون أن ندركها. يقول سقراط "إن وقت الفراغ لهو أثمن ما نمتلك".

فكرة بسيطة كهذه قالها الحكيم اليوناني في معرض تعريفاته للأشياء، تفرضُ نفسها في الأوساط المثقفة، أو التي تدّعي العلم، على ذهن مَن يعرفها كلما واجه سؤالاً: كيف تقضي أوقات فراغك؟

يرتبك المعني بالرد، ويُجري خطاباً ذهنياً سريعاً يفكر خلاله بتحديد قيمة ما يملك، ليقوله ملَخّصاً ضمن إجابة سريعة عن السؤال.

الإجابة من نوع "أملأ فراغي بالمطالعة" باتت مبتذلة، أو استعراضية، لذلك يتحايل المجيب على الأمر فيقول قرأت أخيراً كذا (ذاكراً اسم كتاب قرأه فعلاً أو سمع عنه)، لكن يلجأ غيره إلى أجوبة أكثر إلهاماً وشاعرية، كأن يقول: أتردّد عادة على حضور فرقة غربية تعزف موسيقى كلاسيكية.. أو أرتاد مسرحاً يقدم عروضاً جادة. وكأنه لا يمكن للعامل في الشأن الثقافي أن يذهب إلى سينما تعرض أفلام رعب، أو كوميديا، ولا يمكنه أن يستمتع بالطهو، أو بتحطيم أرقام جديدة في ألعاب الكمبيوتر أو الجوال.

يُجَمِّلُ الناس أنفسهم بإعطاء صورة مثقفة عن فراغاتهم، ويستغل آخرون السؤال ليستعرضوا طقوساً غرائبية ليس أخطرها القفز بواسطة مظلة من الطائرة، وهي هواية رغم خفقان القلب المهول الذي يرافقها، لكن يُعرف عنها أنها تبعث السعادة، وبالتالي من المفيد ادّعاء ممارستها.

بالرغم من أنها تحوي لقباً اجتماعياً، إلا أن الاعتراف بجاذبية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يعاني الإهمال أو النبذ المتعمّد في حفلات الاستعراض الاجتماعية. ومعظم الحكم والمقولات التي توصَّلنا إليها من خلال ذاك العالم الغني، تنسب إلى جهات أخرى كالكتب أو المحاضرات.

من المفيد الاعتراف بأن القيام ببضع مراجعات أو عمليات دماغية كالمقارنة والقياس لا توصل بالضرورة إلى نتائج يمكن تصنيفها تحت خانة معلومات مبرمة. يعتمد الإنسان عادة على أمور محددة للتنبؤ بما هو آت تساعده في ذلك مرجعيات معمول بها كالفلك والنجوم، أو الاستئناس بحادثة جرت في الماضي، وإعلان نتائجها على أخرى مشابهة راهنة، أو باعتماد الحدس بشقيه المتفائل والمتشائم، لغرض واحد وهدف يتيم هو ادعاء المعرفة.

لا يستقيم أن تنزوي الانتفاضات العربية، بمعناها السياسي، وحيدة من دون أن يدعمها ما هو جدير بها على المستوى الاجتماعي والمعرفي، ويحزننا أن نرى المشتتين منّا في بلدان العالم وهم يجهدون للحفاظ على خصال اجتماعية سلبية، في وجه محاولات رياح البلدان المتقدمة، التي يقطنونها، العصفَ بأذهانهم أو تقويم تصرفاتهم وتهذيب نواقص لن يتخلّوا عنها بسهولة.

(سورية)

دلالات
المساهمون