كثر هم عاملو الإغاثة الأجانب الذين يندفعون إلى تقديم المساعدة إلى المتضررين في مناطق الصراعات. فرانك شاب ألماني، قصد حلب لإتمام مهمّته فشهد على البراميل المتفجّرة
لم يعِ فرانك فداحة الذهاب إلى حلب في مثل هذه الأيام. هو كان أسير فكرة زيارة هذه المدينة التي كانت من بين أوّل المدن التي درسها في كتب التاريخ والتي تعدّ من الأقدم على مر العصور، على الرغم من أن مؤشّر السلام العالمي قد صنّف سورية من بين أخطر البلدان في العالم.
في منتصف أغسطس/ آب الماضي، عبَر فرانك الحدود التركية السورية متوجهاً إلى حلب للمرة الأولى في حياته. توجّه إليها وفي مخيلته صورة لمدينة مدمّرة تخلو من أي شكل من أشكال الحياة، نتيجة الدمار المهول في الأبنية والمرافق الطبية والخدمية. هذه هي الصور التي تنقلها مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والصحف العالمية.
عند تلقي رسالة من مديره في العمل يخبره فيها عن تكليفه بمهمة داخل مدينة حلب لإكمال مشروعهم في تقديم المساعدات الإغاثية التي جمعوها من الشعب الألماني لمساعدة السوريين، عبّر عن حماسة كبيرة. لكنّ بمجرّد أن بدأ رحلته، تملّك به الخوف.
عند مدخل مدينة أعزاز، راح فرانك ينتظر دليله ماجد الذي يتقن اللغة الإنجليزية. قابله الأخير مع ابتسامة عريضة. لم يتوقع فرانك أن يجد من يبستم في هذا المكان. وانطلقا. كلما تقدّما أكثر في المدينة، كان أزيز الطائرات والرصاص يتصاعد وكذلك رائحة البارود المحروق، في حين تتكرر أكثر فأكثر مشاهد البيوت المدمرة.
تنقسم مدينة حلب إلى قسمَين اثنَين. الأكبر تحت سيطرة النظام السوري، أما الآخر فبيد المعارضة السورية وحيّ الراموسة مدخل له. اجتازه فرانك وماجد، متوجهَين إلى حي صلاح الدين ليستقرا هناك. ولأن فرانك كان بحاجة إلى الاطلاع على احتياجات المدينة وإنهاء عمله بأسرع وقت ممكن، انهال على ماجد بأسئلة حول احتياجات الناس، وطلب منه اصطحابه بجولة في الأحياء. حذّره دليله من الخطر، إذ إن الطائرات لم تهدأ منذ الصباح الباكر. لم يكترث. كان يريد العودة سريعاً إلى الديار.
المحطة الأولى كانت في حي باب الحديد، بالقرب من الدوار المُسمّى باسمه. كان الدمار يحيط به، وقد طاول بعضاً منه أيضاً. كانت أسقف الأبنية قد سويت بالأرض، إلا أن هذا الباب كان بجدرانه الأثرية يقف شاهداً على كل ما أصاب حلب في كل العصور. أحس فرانك بأن ذلك الباب يخاطبه قائلاً: "لا تخافوا. حلب لا تموت".
وراح يلتقط صوراً له. ويصفه لـ "العربي الجديد": "كان ضخماً جداً كضخامة التاريخ الحلبي أمام ما يحاولون تدميره هنا". اجتاز الباب وسار في الطريق المؤدي إلى المدرسة الكلتاوية الصغرى، وهي مدرسة ذات طابع ديني. كان الطريق مرصوفاً كطرق المدن القديمة بالحخارة. أما أزقتها فتسكنها روائح الزمن البعيد والعناكب. حتى القطط كانت تأوي إليه، كأنها تدري أن القصف لن يطاوله. ويقول: "قطط حلب تعرف تماماً أيّ المناطق هي الأكثر أماناً". من جهته، كان ماجد يصرّ على إخباره عن الأماكن التاريخية القديمة التي كانت تميّز حلب، وعن حدائقها المزدانة بأنواع الورود والأشجار الزاهية.
وفجأة سقط برميل متفجّر من إحدى المروحيات العسكرية في موقع قريب. هرعت سيارات الإسعاف والإطفاء إلى مكان الحادثة، في حين راحت فرق الدفاع المدني تبحث عن ناجين.
عندما وصل فرانك إلى محل الواقعة، كانت برك الدماء تملأ الأرض في حين كان الغبار ودخان الحريق الذي أخمد يملآن المكان. لكن أكثر ما لفت نظره، هو ذلك الرجل الذي خرج من بين الناجين مغطّى بالجص الأبيض وقد تلطخ رأسه وجسده باللون الأحمر من جرّاء بعض الجراح الخفيفة. وسرعان ما جلس على ساقيه المثنيتين ورفع يديه إلى السماء يتضرّع إلى الله لكي ينقذ أولاده من تحت الركام.
عندما أنهى رجال الدفاع المدني عملهم، تبيّن سقوط أربعة قتلى وعشرات الجرحى. حينها، راح فرانك يجول بنظره على المكان. كان ساحة عامة، لاحظ على ما تبقى من جدران بعض المباني المحيطة بها، صوراً لأياد ترفع إشارة النصر. وقال لماجد: "لا يبدو أن ثمّة مقرات عسكرية هنا. كلها بيوت ومحال تجارية".
شعر بالصدمة، وراح يتذكر كل ما سمعه عن هذه البقعة من الأرض. اليوم صار يفهم لماذا تهاجر هذه الأعداد الكبيرة من أهل المكان إلى أوروبا بحثاً عن الأمان. ويشير لـ "العربي الجديد" إلى أن "ما كان قد ارتسم في عقلي، أقل بكثير مما شاهدته في حلب. الموت يجول في الطرقات. وكلمة حياة لا معنى لها".
مع هبوط الليل، عاد فرانك وماجد إلى البيت في حيّ صلاح الدين. مرّة جديدة لم يستوعب ما الذي يدور حوله. على الطريق، كان بعض الأولاد يلعبون في حين لم تختفِ أصوات القصف.
لم يعرف طعم النوم في تلك الليلة. كان شريط ما حصل معه يمر تكراراً أمامه. وعندما طلع الصباح، التقى فرانك ممثلي مؤسسات إغاثية وحصل منهم على ما يريد. وعند الظهيرة، غادر عبر الراموسة الأراضي السورية متجهاً إلى تركيا ومنها عاد إلى ألمانيا. طوال رحلته، كان يتساءل عن جدوى تلك المساعدات. وراح يفكّر أن أفضل إعانة لأهالي حلب هي في إيجاد مظلة تقي المدينة من البراميل المتفجرة التي تسقط على رؤوس ساكنيها وتحميهم من شبح الموت.
اقرأ أيضاً: سوريون يسدّون أبواب بيوتهم بالحجارة
لم يعِ فرانك فداحة الذهاب إلى حلب في مثل هذه الأيام. هو كان أسير فكرة زيارة هذه المدينة التي كانت من بين أوّل المدن التي درسها في كتب التاريخ والتي تعدّ من الأقدم على مر العصور، على الرغم من أن مؤشّر السلام العالمي قد صنّف سورية من بين أخطر البلدان في العالم.
في منتصف أغسطس/ آب الماضي، عبَر فرانك الحدود التركية السورية متوجهاً إلى حلب للمرة الأولى في حياته. توجّه إليها وفي مخيلته صورة لمدينة مدمّرة تخلو من أي شكل من أشكال الحياة، نتيجة الدمار المهول في الأبنية والمرافق الطبية والخدمية. هذه هي الصور التي تنقلها مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والصحف العالمية.
عند تلقي رسالة من مديره في العمل يخبره فيها عن تكليفه بمهمة داخل مدينة حلب لإكمال مشروعهم في تقديم المساعدات الإغاثية التي جمعوها من الشعب الألماني لمساعدة السوريين، عبّر عن حماسة كبيرة. لكنّ بمجرّد أن بدأ رحلته، تملّك به الخوف.
عند مدخل مدينة أعزاز، راح فرانك ينتظر دليله ماجد الذي يتقن اللغة الإنجليزية. قابله الأخير مع ابتسامة عريضة. لم يتوقع فرانك أن يجد من يبستم في هذا المكان. وانطلقا. كلما تقدّما أكثر في المدينة، كان أزيز الطائرات والرصاص يتصاعد وكذلك رائحة البارود المحروق، في حين تتكرر أكثر فأكثر مشاهد البيوت المدمرة.
تنقسم مدينة حلب إلى قسمَين اثنَين. الأكبر تحت سيطرة النظام السوري، أما الآخر فبيد المعارضة السورية وحيّ الراموسة مدخل له. اجتازه فرانك وماجد، متوجهَين إلى حي صلاح الدين ليستقرا هناك. ولأن فرانك كان بحاجة إلى الاطلاع على احتياجات المدينة وإنهاء عمله بأسرع وقت ممكن، انهال على ماجد بأسئلة حول احتياجات الناس، وطلب منه اصطحابه بجولة في الأحياء. حذّره دليله من الخطر، إذ إن الطائرات لم تهدأ منذ الصباح الباكر. لم يكترث. كان يريد العودة سريعاً إلى الديار.
المحطة الأولى كانت في حي باب الحديد، بالقرب من الدوار المُسمّى باسمه. كان الدمار يحيط به، وقد طاول بعضاً منه أيضاً. كانت أسقف الأبنية قد سويت بالأرض، إلا أن هذا الباب كان بجدرانه الأثرية يقف شاهداً على كل ما أصاب حلب في كل العصور. أحس فرانك بأن ذلك الباب يخاطبه قائلاً: "لا تخافوا. حلب لا تموت".
وراح يلتقط صوراً له. ويصفه لـ "العربي الجديد": "كان ضخماً جداً كضخامة التاريخ الحلبي أمام ما يحاولون تدميره هنا". اجتاز الباب وسار في الطريق المؤدي إلى المدرسة الكلتاوية الصغرى، وهي مدرسة ذات طابع ديني. كان الطريق مرصوفاً كطرق المدن القديمة بالحخارة. أما أزقتها فتسكنها روائح الزمن البعيد والعناكب. حتى القطط كانت تأوي إليه، كأنها تدري أن القصف لن يطاوله. ويقول: "قطط حلب تعرف تماماً أيّ المناطق هي الأكثر أماناً". من جهته، كان ماجد يصرّ على إخباره عن الأماكن التاريخية القديمة التي كانت تميّز حلب، وعن حدائقها المزدانة بأنواع الورود والأشجار الزاهية.
وفجأة سقط برميل متفجّر من إحدى المروحيات العسكرية في موقع قريب. هرعت سيارات الإسعاف والإطفاء إلى مكان الحادثة، في حين راحت فرق الدفاع المدني تبحث عن ناجين.
عندما وصل فرانك إلى محل الواقعة، كانت برك الدماء تملأ الأرض في حين كان الغبار ودخان الحريق الذي أخمد يملآن المكان. لكن أكثر ما لفت نظره، هو ذلك الرجل الذي خرج من بين الناجين مغطّى بالجص الأبيض وقد تلطخ رأسه وجسده باللون الأحمر من جرّاء بعض الجراح الخفيفة. وسرعان ما جلس على ساقيه المثنيتين ورفع يديه إلى السماء يتضرّع إلى الله لكي ينقذ أولاده من تحت الركام.
عندما أنهى رجال الدفاع المدني عملهم، تبيّن سقوط أربعة قتلى وعشرات الجرحى. حينها، راح فرانك يجول بنظره على المكان. كان ساحة عامة، لاحظ على ما تبقى من جدران بعض المباني المحيطة بها، صوراً لأياد ترفع إشارة النصر. وقال لماجد: "لا يبدو أن ثمّة مقرات عسكرية هنا. كلها بيوت ومحال تجارية".
شعر بالصدمة، وراح يتذكر كل ما سمعه عن هذه البقعة من الأرض. اليوم صار يفهم لماذا تهاجر هذه الأعداد الكبيرة من أهل المكان إلى أوروبا بحثاً عن الأمان. ويشير لـ "العربي الجديد" إلى أن "ما كان قد ارتسم في عقلي، أقل بكثير مما شاهدته في حلب. الموت يجول في الطرقات. وكلمة حياة لا معنى لها".
مع هبوط الليل، عاد فرانك وماجد إلى البيت في حيّ صلاح الدين. مرّة جديدة لم يستوعب ما الذي يدور حوله. على الطريق، كان بعض الأولاد يلعبون في حين لم تختفِ أصوات القصف.
لم يعرف طعم النوم في تلك الليلة. كان شريط ما حصل معه يمر تكراراً أمامه. وعندما طلع الصباح، التقى فرانك ممثلي مؤسسات إغاثية وحصل منهم على ما يريد. وعند الظهيرة، غادر عبر الراموسة الأراضي السورية متجهاً إلى تركيا ومنها عاد إلى ألمانيا. طوال رحلته، كان يتساءل عن جدوى تلك المساعدات. وراح يفكّر أن أفضل إعانة لأهالي حلب هي في إيجاد مظلة تقي المدينة من البراميل المتفجرة التي تسقط على رؤوس ساكنيها وتحميهم من شبح الموت.
اقرأ أيضاً: سوريون يسدّون أبواب بيوتهم بالحجارة