كتب نجيب محفوظ يوما في روايته "العائش في الحقيقة" على لسان الأب، وهو ينصح ابنه مري مون، "كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هِبة للمتأملين".
لكن المدارس التاريخية تنقسم على نفسها بشأن تلك الآذان المفتوحة، وتاليا؛ اعتبار ما يلقى فيها مادة أرشيفية يفيد منها الباحث، فعلى ما قال الأكاديمي والمؤرخ عماد أبو غازي، في محاضرة له بعنوان "اليوميات مصدراً للتأريخ، مذكرات النفي نموذجاً"، إذ تكون الوثائق الرسمية مصدرا معتمدا لدى المدارس التقليدية، فإنها ترى إلى المذكرات واليوميات كمادة غير مكتملة، كونها لا تخضع لشكل وقالب محدد.
المحاضرة التي عقدت مساء السبت الماضي في "المعهد الفرنسي للآثار الشرقية"، بوسط العاصمة المصرية، كانت من أجل تقديم أستاذ الوثائق بجامعة القاهرة لكشف تاريخي يتمثّل في مذكّرات زعيم حزب الوفد ورئيس الوزراء المصري الأسبق، مصطفى النحاس باشا (1879 - 1965)، وتحديداً المذكرات الخاصة بفترة نفيه مع سعد زغلول باشا (1859 - 1927) وأربعة آخرين إلى جزيرة سيشيل الاستوائية، والتي كتبها بخطّه وامتدت لتشمل فترة النفي من كانون الأول/ ديسمبر 1921 حتى آذار/ مارس 1923.
يقول أبو غازي إنه حصل على هذه اليوميات، التي سُطّرت في ثلاث كراسات، من القطب الوفدي فؤاد بدراوي، وقد وجدها الأخير قبل خمس سنوات مهملة ومدشّتة في منزل آخر أقطاب حزب الوفد الكبار فؤاد سراج الدين باشا (1911-2000) بعد أن آلت إليه من السيدة زينب الوكيل حرم النحاس باشا.
ورغم ما يثار من استفهامات حول الأسباب أو الموانع التي دعت النحاس ومن بعده فؤاد سراج الدين لعدم نشر هذه اليوميات، أو تلك الحالة المهمَلة التي وُجدت عليها، إلا أن أبو غازي أشار لقصدية كتابة هذه المذكرات بالقول: "يبدو أن هذه المذكرات كتبت لتنشر، وأنها مذكرات "رسمية" بمعنى ما أو "عامة" بمصطلح النحاس، وأنها محاولة من الوفد المصري لتوثيق ما يتعرض له رجاله".
أهمية هذه اليوميات التي ستنشر نهاية هذا الشهر عن دار الشروق المصرية، ليس أنها تحديدا على لسان واحد من كبار سياسيّي ما قبل يوليو 52، وفي فترة مفصلية في تاريخ مصر الحديث، بل أيضا أنها أضافت إلى الانشغال العام أبعادا إنسانية ننفذ من خلالها لشخصيات المنفيين - حتى ولو كان مدار الأمر كله على تجربة النفي ذاتها - سواء عبر لغة اليوميات نفسها التي مع عربيتها الفصحى جاءت مطعّمة بالعامية، وأحيانا ببعض الكلمات التركية والإنكليزية، كما يشير أبو غازي؛ وليس انتهاء بالشؤون العائلية أو حتى ما يمكن اعتبارها مشاحنات خفيفة بين جماعة المنفيين.
يقول أبو غازي مثلا إن فتح الله بركات كان المكلّف في البداية بكتابة المذكرات، "إلا أنه حوّلها لمذكّرات شخصية، وقد دبّ خلاف بينه وبين النحاس وسينوت حنا حول طريقته في كتابة المذكرات مما أدى إلى انتقال المهمة للنحاس"، ويوضح أبو غازي معنى "مذكرات شخصية" هنا بالقول إن بركات كان يكتب أحيانا ما يبدو أنها أحاديث خاصة بين المجموعة لا يريدون أو لا معنى لنشرها "لكننا لا نعرف ما هي هذه الأمور، ولا يشير النحاس إليها".
أضف إلى ذلك بعض الطرافة الواردة في اليوميات؛ من مثل إعدادهم لالتقاط صور فوتوغرافية مجمّعة لهم، وفشلهم أكثر من مرة في الخروج بنتيجة جيدة؛ أو كتابتهم لبعض الرسائل المتبادلة مع أعضاء الوفد في الوطن بالطريقة التي نعرفها الآن باسم "الفرانكو" وهي كتابة العربية بحروف إنكليزية، قصد إخفاء ما تحويها على سلطات الرقابة البريطانية؛ وكذا كتابتهم لرسائل مشفرة باستخدام مياه البصل بعد نقل سعد زغلول من سيشيل لجبل طارق إثر مطالبات كثيرة خوفا على صحته.
يقول أبو غازي: "ينطبق على هذه المذكرات مفهوم اليوميات فقد دونها مصطفى النحاس بشكل يومي، وإن كان يبدو بوضوح أنه قد بدأ في تدوين الكراسة الأولى بعد بداية الأزمة التي انتهت بنفي سعد ورفاقه، لكن باقي المذكرات كما يتضح من أسلوبها، كانت يوميات يدونها الرجل في حينها، باستثناءات قليلة؛ لكن هناك تفاوتًا واضحًا في ما كان يكتبه في كل يوم وفقًا للأحداث؛ فبعض الأيام يشغل عدة صفحات وبعضها أسطر قليلة، وبعضها لا يدون فيه أحداثًا إطلاقًا".
ويوضح أن "ما وصل إلى أيدينا من المذكرات الفترة من 19 ديسمبر 1921 حتى 12 مارس 1923، أي أنها تبدأ قبل اعتقالهم بأربعة أيام، ولا تستمر حتى نهاية فترة النفي، كما أن هناك فجوات طويلة فيها لم تصل إلينا أو لم يدون فيها مصطفى النحاس مذكرات".
أشار أبو غازي أخيرا إلى أن هذه المذكرات هي الأولى التي تنشر بخط مصطفى النحاس، وإذ يستدرك بقوله إنه سبق ونُشرت مذكرات للنحاس في جزأين أعدها الصحافي محمد عز الدين، إلا أنه يضيف أن الجزء الأول من المذكرات المشار إليها حوى مقدمة كتبها محمد كامل البنا سكرتير النحاس قال فيها إنه هو من قام بكتابة هذه المذكرات على هوامش بعض الكتب، خوفا من مصادرتها، "ما يعني أنها لم تكن مُملاةً من النحاس نفسه"، يقول أبو غازي.
يبقى أن هذا الكشف المهم ليوميات النفي التي كتبها النحاس، حتى مع وجود فجوات فيها لا تغطي مجمل الفترة على ما يقول أبو غازي، فإنها تأتي ختاماً لعام شهد كثافة معتبرَة في الاحتفال بمئوية ثورة 1919، عبر عديد الملتقيات البحثية والندوات العامة في بعض الجامعات والمؤسسات الحكومية، وانتهاءً بحركة نشرٍ ملفتة من دور النشر الخاصة والحكومية للأعمال المشغولة بالثورة رصداً وتحليلاً؛ سواء بالجديد الطازج، كما في "يوميات لورد ملنر" التي نشرت ترجمتها في كتاب صادر عن دار الشروق؛ أو إعادة نشر أعمال مهمة كما في مجموعة الكتابات التي صدرت عن هيئة قصور الثقافة المصرية.
من بين تلك الأعمال ما يحكي عن الثورة خارج القاهرة الكبرى وتحديدا في أسوان كما في كتاب "سجين ثورة 19" لمحمد مظهر سعيد، وكلها تقول إن الثورة لم تكن بيضاء "مهذبة" كما تخبرنا الرواية الرسمية في كتبها المدرسية، لكنها كانت ثورة "الأيام الحمراء" إذا استعرنا عنوان المذكرات المنشورة للشيخ عبد الوهاب النجار عن ثورة 1919.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المماليك إلى ثورة 1919
رغم تخصصه في الوثائق المملوكية فإن لعماد أبو غازي (الصورة)، الذي شغل منصب وزير الثقافة المصري في أول وزارة بعد ثورة 25 يناير، انشغالات بتاريخ مصر الحديث؛ وثورة 1919 في قلب هذا الاهتمام، وقد أصدر بهذا الشأن كتيبا بعنوان "حكاية ثورة 19" في سلسلة "حكاية مصر" (الهيئة العامة لقصور الثقافة). أما في مجال اختصاصه فله كتابان إشكاليان: "طومان باي، السلطان الشهيد" و"1517، الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك".