09 مايو 2018
مصر ونخبتها وثورتها
ممدوح بري (فلسطين)
يستفسر أصدقاء ويقول: أين أخفقت النخب المصرية؟ ولماذا وصلت مصر إلى هذا الحال؟
إنها عقدة تقديس الذات، وغلو نخب الأيديولوجيات المتعددة، إذ لم تتقبل مجمل التيارات الفكرية المطروحة على الساحة السياسية في مصر غير أطروحاتها، وتخندق كل تيار خلف أطروحاته، وتمسك بفكرة إغراق غيره، طمعاً في منصب الرئيس المنتخب، أو الاستحواذ على الحكومة وثقافة الحكم، على الرغم من تواضع عدد مجمل هذه التيارات وجماهيرها.
وهنا تحركت الدولة العميقة بمؤسساتها، وبرداء الثعلب، لتتقمص أنماطا متعددة، ولتفسد على مصر أفضل لحظة عرفها التاريخ المصري الحديث والمعاصر، ووفرت رافعةً لظهور مجمل هذه المتناقضات خلال العام الذي تولّت فيه نخب جماعة الإخوان المسلمين تشكيل الحكومة المصرية.
وعلى الرغم من هذا الكم من التناقضات في الفكر والإيديولوجيا والثقافة والمشروع السياسي والبون الشاسع بين هذه النخب الاشتراكية من طرف، والليبرالية من طرف آخر، والماركسية من طرف ثالث، وأضف إليهم مرجعيات دينية أو سياسية لها ارتباط بإيران أو ممالك الخليج العربي أو الأقباط.. كلها اجتمعت على إفشال الرئيس المنتخب، محمد مرسي، ولكل منها مبرراته ومشروعه المحلي والإقليمي والطائفي. ولأن لكل ثورة أعداء من الداخل والخارج، ولأن الحرية والعدالة شعار تخشاه الممالك والجمهوريات المستبدة، تحرّك هؤلاء بأموالهم ومنابرهم لإفساد فرحة مصر.
وفتحت لتلك النخب المتناقضة مجمل الفضائيات الرأسمالية والممولة، وحرمت النخب نفسها من فسحة الظهور، حينما تم الانتهاء من سلطة الرئيس محمد مرسي وعزله واعتقاله، وتم البطش بتلك النخب بالتدريج، وتم تشريد بعضها واحتواء أخرى، وذلك لأن المستبد لن يسمح بمن يخالفه، ولن يستأنس بصوت حر وشريف.
توهمت تلك النخب بمرحلة انتقالية تحصل خلالها على جزء من الكعكة، بعد عزل مرسي، واعتقدت وهلة أن أجواء الحرية دائمة، وهي من فتحت لها أبواب تلك الفضائيات والمنابر، لكنها استيقظت على الحلم المفزع، حينما حرمت من حريتها وكرامتها، كانت تعتقد أنها سترث الإخوان بعد إسقاطهم، وأنه سيتم الإجهاز عليهم للأبد، لكنها لم تعلم حقيقة تحولات طريق الدماء والإقصاء والظلم.
وكانت تلك النخب والتيارات تعتقد أن تلك القيود قد انفك عقالها إلى الأبد، لكنها كانت تجهل طبائع الأشياء وتحولات المشرق العربي وثقافة التسلط. لطالما نصحها الرئيس محمد مرسي بالتريث، ولطالما طالبها بالشراكة، وتشكيل حكومة وحدة، وعرض عليها مناصب وزارية وعضوية أركان مؤسسة الرئاسة، لكنها رفضت بتبجح وغلو إيديولوجي.
لعلنا نتذكر ما جرى للثورة الفرنسية من انتكاسات في بداياتها، حينما تحرك الجوار الأوروبي لإعادة الملكية، فتحرك الثوار، ودفعتهم غريزة التطرف العرقي والثوري نحو الدفع بشخص متطرف ليقود الحكومة المؤقتة، وتمثل بشخصية روبيسبيرو. وتمكن هذا المتطرف خلال سنوات حكمه القليلة من إعدام أكثر من 20 ألف ثائر من مخالفيه، بذريعة نظرية المؤامرة أو منع إعادة الملكية، ولكن استطاعت المقصلة ذاتها النيل من رقبته، بعد أن عايش سكان العاصمة مشاهد مرعبة، ولم تبتعد رائحة الدماء عن الميادين العامة والأحياء السكنية، وطوال عامين كانت تتنقل مقصلة الإعدام بين أحياء العاصمة باريس، لتنال من رقاب الثوار بتنوع مشاربهم، ومن رقبة الملك وزوجته ورقاب زعماء وأركان النظام الملكي.
لكن لم تخرج فرنسا من لعنة الدماء بهذه البساطة، وحينما تشكلت حكومة الإدارة، وكان الجنرال نابليون بونابرت أحد عناصرها، وأكثرهم بروزاً، دفع فرنسا نحو حروب طاحنة مع محيطها الأوروبي، وحرب خاسرة في عمق اليابسة الروسية خلال فصل الشتاء، وحملة نحو المشرق، تمكنت من احتلال مصر، وهُزمت على أسوار عكا، وعاد نابليون إلى فرنسا يجر أذيال الهزيمة، وانهارت أسطورة نابليون بشكل مدو، وهنا بدأت تنتعش مجدداً أفكار الثورة من حرية وعدالة ومساواة بعد عشر سنوات من الدماء، وتنفس شعب فرنسا ودعاة الحرية والعدالة هواء نقيا مجدداً، وسقطت قلاع الغلو والاستبداد والتسلط العسكري بعد عقد من سقوط الإقطاع والملكية.
لطالما اعتقد دعاة التطرف العلماني في مصر أن بمقدورهم استغلال مشهد الصراع النخبوي والسياسي وتدعيم غلو الدولة وتطرفها تجاه معارضيها، بهدف الوصول إلى حالة تشبه مناخات الثورة الفرنسية، ولطالما ساهم هذا التيار في تقريب مناخات الاشتعال، واستغل حالة التباعد والحقد والصدمة، ونجح في ذلك أكثر من مرة.
لربما عايشت مصر أصعب مراحلها منذ حكومة حازم الببلاوي وإبراهيم محلب والرئيس المؤقت عدلي منصور والجنرال عبد الفتاح السيسي. لكن هذه الحقبة لم تحسن أن تجهز على ما أوجدته الثورة من وشائج وأجواء ومناخات وحالة سياسية وتجربة مؤقتة، ولم تحسن أن تقدم بديلا حضاريا يستوعب متطلبات الشعب وتحولات العصر.
وختاماً، أصبحت النخب المصرية تعلم أنها لن تمثل حالة حكم أو نظام سياسي في مصر لوحدها أو منفردة، وأنها لا تمتلك رافعة شعبية، وتعلم أنه لا يوجد في مصر سوى الجيش وتيار مدني متمثل بالإخوان وبعض النخب والقيادات والشخصيات الحزبية والمستقلة القريبة من نموذج الدولة العادلة، والمؤمنة بأهمية انبعاث طاقات مصر ونهضة شعبها، وهي نماذج متعاونة مع نموذج نخبة جماعة الإخوان.
ومهما حاولت نخب الإيديولوجيات التقليدية بتنوعها أن تبحث عن بدائل فهي تبحث في الوهم، وليس بمقدورها أن تصنع حالة، وليس بمقدورها أن تتقارب، ولا تمتلك إلا أن تضع يدها مع نخب جماعة الإخوان، فهي الأقرب لها في الساحة المصرية، وهي القادرة على تشكيل حالة شعبية أو رافعة سياسية تقود البلاد إلى الرخاء والأمن والنهضة والاستقرار، وفق نموذج مشابه للحالة التركية بشكل لا يلغي خصوصية الثقافة والمجتمع المصري العريق.
إنها عقدة تقديس الذات، وغلو نخب الأيديولوجيات المتعددة، إذ لم تتقبل مجمل التيارات الفكرية المطروحة على الساحة السياسية في مصر غير أطروحاتها، وتخندق كل تيار خلف أطروحاته، وتمسك بفكرة إغراق غيره، طمعاً في منصب الرئيس المنتخب، أو الاستحواذ على الحكومة وثقافة الحكم، على الرغم من تواضع عدد مجمل هذه التيارات وجماهيرها.
وهنا تحركت الدولة العميقة بمؤسساتها، وبرداء الثعلب، لتتقمص أنماطا متعددة، ولتفسد على مصر أفضل لحظة عرفها التاريخ المصري الحديث والمعاصر، ووفرت رافعةً لظهور مجمل هذه المتناقضات خلال العام الذي تولّت فيه نخب جماعة الإخوان المسلمين تشكيل الحكومة المصرية.
وعلى الرغم من هذا الكم من التناقضات في الفكر والإيديولوجيا والثقافة والمشروع السياسي والبون الشاسع بين هذه النخب الاشتراكية من طرف، والليبرالية من طرف آخر، والماركسية من طرف ثالث، وأضف إليهم مرجعيات دينية أو سياسية لها ارتباط بإيران أو ممالك الخليج العربي أو الأقباط.. كلها اجتمعت على إفشال الرئيس المنتخب، محمد مرسي، ولكل منها مبرراته ومشروعه المحلي والإقليمي والطائفي. ولأن لكل ثورة أعداء من الداخل والخارج، ولأن الحرية والعدالة شعار تخشاه الممالك والجمهوريات المستبدة، تحرّك هؤلاء بأموالهم ومنابرهم لإفساد فرحة مصر.
وفتحت لتلك النخب المتناقضة مجمل الفضائيات الرأسمالية والممولة، وحرمت النخب نفسها من فسحة الظهور، حينما تم الانتهاء من سلطة الرئيس محمد مرسي وعزله واعتقاله، وتم البطش بتلك النخب بالتدريج، وتم تشريد بعضها واحتواء أخرى، وذلك لأن المستبد لن يسمح بمن يخالفه، ولن يستأنس بصوت حر وشريف.
توهمت تلك النخب بمرحلة انتقالية تحصل خلالها على جزء من الكعكة، بعد عزل مرسي، واعتقدت وهلة أن أجواء الحرية دائمة، وهي من فتحت لها أبواب تلك الفضائيات والمنابر، لكنها استيقظت على الحلم المفزع، حينما حرمت من حريتها وكرامتها، كانت تعتقد أنها سترث الإخوان بعد إسقاطهم، وأنه سيتم الإجهاز عليهم للأبد، لكنها لم تعلم حقيقة تحولات طريق الدماء والإقصاء والظلم.
وكانت تلك النخب والتيارات تعتقد أن تلك القيود قد انفك عقالها إلى الأبد، لكنها كانت تجهل طبائع الأشياء وتحولات المشرق العربي وثقافة التسلط. لطالما نصحها الرئيس محمد مرسي بالتريث، ولطالما طالبها بالشراكة، وتشكيل حكومة وحدة، وعرض عليها مناصب وزارية وعضوية أركان مؤسسة الرئاسة، لكنها رفضت بتبجح وغلو إيديولوجي.
لعلنا نتذكر ما جرى للثورة الفرنسية من انتكاسات في بداياتها، حينما تحرك الجوار الأوروبي لإعادة الملكية، فتحرك الثوار، ودفعتهم غريزة التطرف العرقي والثوري نحو الدفع بشخص متطرف ليقود الحكومة المؤقتة، وتمثل بشخصية روبيسبيرو. وتمكن هذا المتطرف خلال سنوات حكمه القليلة من إعدام أكثر من 20 ألف ثائر من مخالفيه، بذريعة نظرية المؤامرة أو منع إعادة الملكية، ولكن استطاعت المقصلة ذاتها النيل من رقبته، بعد أن عايش سكان العاصمة مشاهد مرعبة، ولم تبتعد رائحة الدماء عن الميادين العامة والأحياء السكنية، وطوال عامين كانت تتنقل مقصلة الإعدام بين أحياء العاصمة باريس، لتنال من رقاب الثوار بتنوع مشاربهم، ومن رقبة الملك وزوجته ورقاب زعماء وأركان النظام الملكي.
لكن لم تخرج فرنسا من لعنة الدماء بهذه البساطة، وحينما تشكلت حكومة الإدارة، وكان الجنرال نابليون بونابرت أحد عناصرها، وأكثرهم بروزاً، دفع فرنسا نحو حروب طاحنة مع محيطها الأوروبي، وحرب خاسرة في عمق اليابسة الروسية خلال فصل الشتاء، وحملة نحو المشرق، تمكنت من احتلال مصر، وهُزمت على أسوار عكا، وعاد نابليون إلى فرنسا يجر أذيال الهزيمة، وانهارت أسطورة نابليون بشكل مدو، وهنا بدأت تنتعش مجدداً أفكار الثورة من حرية وعدالة ومساواة بعد عشر سنوات من الدماء، وتنفس شعب فرنسا ودعاة الحرية والعدالة هواء نقيا مجدداً، وسقطت قلاع الغلو والاستبداد والتسلط العسكري بعد عقد من سقوط الإقطاع والملكية.
لطالما اعتقد دعاة التطرف العلماني في مصر أن بمقدورهم استغلال مشهد الصراع النخبوي والسياسي وتدعيم غلو الدولة وتطرفها تجاه معارضيها، بهدف الوصول إلى حالة تشبه مناخات الثورة الفرنسية، ولطالما ساهم هذا التيار في تقريب مناخات الاشتعال، واستغل حالة التباعد والحقد والصدمة، ونجح في ذلك أكثر من مرة.
لربما عايشت مصر أصعب مراحلها منذ حكومة حازم الببلاوي وإبراهيم محلب والرئيس المؤقت عدلي منصور والجنرال عبد الفتاح السيسي. لكن هذه الحقبة لم تحسن أن تجهز على ما أوجدته الثورة من وشائج وأجواء ومناخات وحالة سياسية وتجربة مؤقتة، ولم تحسن أن تقدم بديلا حضاريا يستوعب متطلبات الشعب وتحولات العصر.
وختاماً، أصبحت النخب المصرية تعلم أنها لن تمثل حالة حكم أو نظام سياسي في مصر لوحدها أو منفردة، وأنها لا تمتلك رافعة شعبية، وتعلم أنه لا يوجد في مصر سوى الجيش وتيار مدني متمثل بالإخوان وبعض النخب والقيادات والشخصيات الحزبية والمستقلة القريبة من نموذج الدولة العادلة، والمؤمنة بأهمية انبعاث طاقات مصر ونهضة شعبها، وهي نماذج متعاونة مع نموذج نخبة جماعة الإخوان.
ومهما حاولت نخب الإيديولوجيات التقليدية بتنوعها أن تبحث عن بدائل فهي تبحث في الوهم، وليس بمقدورها أن تصنع حالة، وليس بمقدورها أن تتقارب، ولا تمتلك إلا أن تضع يدها مع نخب جماعة الإخوان، فهي الأقرب لها في الساحة المصرية، وهي القادرة على تشكيل حالة شعبية أو رافعة سياسية تقود البلاد إلى الرخاء والأمن والنهضة والاستقرار، وفق نموذج مشابه للحالة التركية بشكل لا يلغي خصوصية الثقافة والمجتمع المصري العريق.
مقالات أخرى
23 يوليو 2015
21 يوليو 2015
21 يناير 2015