"صاعقات القلوب"، هو اسم الإصدار الذي تم بثه من على خشبة مسرح تنظيم ولاية سيناء في إطار الدعاية الحربية والحرب النفسية للتنظيم، ويظهر قنصه لأعداد من جنود الجيش المصري غير المدربين؛ هذا الإصدار أدمى قلوب كل المصريين وأثار تعاطفهم مع المجندين.
لكن الجرح لم يكد يندمل حتى "صعقت قلوب" المصريين مرة أخرى؛ لكن هذه المرة بفيديو مسرب من على خشبة مسرح القوات المسلحة المصرية أذاعته قناة "مكملين" المحسوبة على جماعة الإخوان، يظهر قيام جنود من الجيش المصري برفقة مدنيين بزي عسكري بتصفية معتقلين مقيدي الأيدي، من بينهم طفل، في مشهد مليشياوي دموي لا يتفق مع أبسط قواعد الشرف العسكري أو حتى المواثيق والعهود الدولية.
هذان المشهدان يفرضان على الدولة بكل مؤسساتها والمجتمع المدني وكل المعنيين بالاستقرار في مصر ومكافحة التطرف عدة أسئلة تأسيسية:
- ما هو المنطق الذي سنقنع به أهالي الضحايا الذين ظهروا في تسريب سيناء باللجوء للقانون أو الإيمان بمؤسسات الدولة وقد شاهدوا بأعينهم قيام عناصر من الجيش بإعدام أبنائهم ميدانيًا خارج إطار القانون بلا محاكمات؟ وهل نستبعد احتمالية أن يتجه بعضهم لخيار العنف طلبًا للثأر، وبذلك يستمر الإمداد البشري للتنظيمات المسلحة؟
- هل يجوز للدولة أن تستخدم السلاح خارج إطار القانون وتتعامل بمنطق العصابة أو المليشيا وتكذب وتلفق في روايتها الرسمية حتى لو افترضنا أن المعتقلين لديهم نشاط إرهابي؟
- ألا يعتبر ما حدث هو مخالفة صريحة للعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، والذي يعطي الدولة الحق في احتكار السلاح بشرط استخدامه وفق القانون والدستور مقابل توفير الأمن للمواطنين؟ وألا يعد ذلك تأسيسًا لدولة اللاقانون وشريعة الغابة؟
- إذا كنّا نسمي تصفية تنظيم ولاية سيناء للأسرى المدنيين أو العسكريين إرهابًا، فكيف نسمي التصرف نفسه من الدولة بأنه حرب على الإرهاب؟
ما من فرق بين مشهد ذبح "أبو حراز"، الرجل الصوفي المسن الذي ذبحته سكين تنظيم ولاية سيناء تحت شعارات الدين، ومشهد الإعدام الميداني للطفل عبدالهادي صبري العوابدة، الطالب بالصف الثاني الثانوي، الذي اغتالت طفولته رصاصات الجيش المصري تحت شعارات الوطنية.
من الواضح أن استراتيجية الدولة الحالية في سيناء لن تحقق انتصارًا أو استقرارًا مستدامًا، ليس فقط بسبب الإصرار على الحل الأمني بوصفه مدخلًا وحيدًا لمواجهة التطرف والعنف، وإنما أيضًا نتيجة عدم فهم طبيعة التحولات التي أصابت التنظيمات المسلحة والإصرار على اتهام التراث الإسلامي أو التعليم أو الأزهر أو الإعلام على أنها المصدر الوحيد للإرهاب، في حين أن مصدر التطرف الرئيسي يكمن في مساحات سياسية واجتماعية أخرى.
تعامل الدولة مع أهل سيناء كفيل بخلق 100 تنظيم مسلح، التهجير القسري والعقاب الجماعي وتكتيكات الأرض المحروقة والقتل العشوائي للمدنيين وتوسيع دائرة الاشتباه والاعتقالات التعسفية وسلخانة معتقل العازولي وقتل كل صور الحياة المدنية لن يصل بنا إلى حالة من الاستقرار في سيناء ومصر عمومًا.
حتى لو نجح الجيش في سيناء في القضاء أو الحد من ظاهرة داعش بمفرده أو بمساعدة "التحالف الدولي" لمواجهة تنظيم الدولة، سيخرج إلينا تنظيم ثان وثالث وعاشر، مثلما ظهر تنظيم أنصار بيت المقدس من رحم تنظيم التوحيد والجهاد وصولًا إلى تنظيم ولاية سيناء؛ هذه المتوالية لن تنتهي ما لم يتم علاج أسباب ظهورها وسنظل ندور في حلقة مفرغة من العنف بدوافعه المختلفة سواء كانت سياسية أو عرقية أو دينية.
وكالعادة، غابت الدولة بمؤسساتها الرسمية عن المشهد ولم تصدر أي بيان رسمي حتى الآن رغم فداحة المسألة، وتركت مهمة التشكيك في الفيديو للإعلاميين المحسوبين على النظام، بينما أصدرت المنظمات الحقوقية الدولية، مثل منظمتي العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، بيانات للتأكيد على صحة الفيديو وإدانة مرتكبيه وتحميل المسؤولية للنظام كاملًا، وخصوصًا أن المتحدث العسكري أصدر بيانًا مدعمًا بالصور بتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 يظهر الجثث نفسها الذي ظهرت في التسريب، ولكنه قال وقتها إنهم قتلوا في اشتباكات مع قوات إنفاذ القانون.
وبعيدًا عن كل هذه الروايات، فإن الطرف المعني بالإثبات أو النفي هم أهل سيناء الذين أكدوا عبر أكثر من منصة على صفحات التواصل الاجتماعي، على صحة الإصدار وتعرفوا على اسم وعائلة الشخص المدني التابع للفرقة (103) أو "الصحوات" التي أشرف الجيش على تدريبها وتسليحها لمساعدته؛ كما نشرت صفحة سيناء 24 عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أسماء الضحايا الذين تم إعدامهم ميدانيًا، وهم إما مواطنون من قبائل سيناء أو مقيمون فيها.
وإذا كان النظام سيستطيع بمساعدة أذرعه الإعلامية أن يتهرب من المسؤولية الأخلاقية المترتبة عن الكارثة التي ظهرت في الفيديو، فإنه لن يستطيع أن يتجاوز تأثيراتها وانعكاساتها على المجتمع السيناوي، سواء على المدى القريب أو البعيد.
قلت سابقًا إن رد الفعل الشعبي عقب التصفية الميدانية لـ10 من أبناء مدينة العريش في يناير/ كانون الثاني الماضي، هو فرصة للنظام وللدولة لتصحيح المسار، لأن رد الفعل السلمي والاحتجاجات والدعوة للعصيان المدني في وسط الجنون الدموي في سيناء كان يستحق الإعجاب والاحترام والاحتواء، إلا أن الدولة وإعلامها سحقوا مطالب الناس تحت عجلات الخطاب الفاشي وحملات التشويه الإعلامي.
هذا النمط من الاحتجاجات لن تجده في الشيخ زويد ورفح، لأنه وببساطة شديدة، التركيبة المجتمعية والثقافية مختلفة عن مدينة العريش، وبالتالي لن يجد النظام وإعلامه صعوبة كبيرة في التغطية على آثار الجريمة داخليًا؛ فلن يجدوا رد فعل شعبي قوي تصوره الكاميرات أو هاشتاغ يتصدر تويتر لمدة يومين ثم ينسى.
مدينتا رفح والشيخ زويد، ووسط سيناء بتركيبتها الاجتماعية وسمات قبائلها الأكثر انغلاقًا ومحافظة على قيم البداوة بما تحمله من رفض للظلم وعدم الانكسار والخضوع والاعتماد على النفس، سيكون رد فعلها وطريقة تنفيس غضبها المكتوم لدى أفرادها غير متوقع ولكنه بالتأكيد في غير صالح الدولة.
الآثار الكارثية المترتبة على ما حدث والتي يمكن قياسها، هي خلق مزيد من العداوات وخسارة الجيش والدولة للعلاقة التاريخية التي تكونت عبر السنين بين الدولة والقبائل التي تعيش على الحدود والاحتقان والغضب المكتوم الذي لو وجد الفرصة للانفجار فإن أول انفجاره سيكون في وجه الدولة.
هذه العلاقة التاريخية التي حسمت تبعية سيناء لمصر، عندما وقف أهل سيناء طواعية مختارين إلى جانب الدولة المصرية في مؤتمر الحسنة في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1968 ورفضوا تدويل سيناء وبالتالي بقيت هناك فرصة لمصر لاستردادها مرة أخرى بقوة السلاح.
فهل تجد مصر صوتًا عاقلًا يصحح الأوضاع ويعيد التفكير في سياسات النظام ويجنب سيناء الأخطار المحدقة بها، أم تستمر السياسة الحالية التي ربما تؤدي إلى خسارة سيناء للأبد، وهي خسارة ستكون مؤلمة للجميع.