على الرغم من المشاكل في ذاكرته، ما زال أحد المصريين المشاركين في احتجاجات عزل الرئيس محمد مرسي عام 2013، يتذكر كيف أصيب بالرصاص، وأرسل إلى المشرحة، قبل أن يعود من الموت
خرج المصري "أ.أ" من درج المشرحة مباشرة إلى غرفة العمليات ومنها إلى العناية المركزة. ما زال حياً بالرغم من الحادثة التي جرت في مثل هذا اليوم من عام 2013.
"أ.أ"، الذي يفضّل التحفظ على ذكر اسمه خشية الملاحقات الأمنية، شاب مصري ثلاثيني كان حاضراً في عملية فض ميدان النهضة من المعتصمين في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013، حيث كان أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، يتجمعون في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة، والنهضة بالجيزة، حتى ارتكبت مذبحة بشرية راح ضحيتها كثيرون.
يتحدث "أ.أ" إلى "العربي الجديد"، فيما يتلقى علاجاً طبيعياً في دار للرعاية والتأهيل، عن قصته التي يتذكر فيها الجزء الذي كان فيه حياً يرزق. ثم ينقل عن شقيقه وأطبائه الجزء الآخر عندما كان "في عداد الموتى". يقول: "كنت من ضمن المجموعة التي تسعف المصابين في اعتصام النهضة. أذكر أنّ آخر من أنقذته كانت سيدة مسنة، حاولت سحبها إلى فندق شهير يطل على الميدان، وما أن لف بنا باب المدخل الدائري، حتى فوجئت بإطلاق نار".
كانت تلك هي اللقطة الأخيرة التي يتذكرها قبل أن يستيقظ ويجد نفسه في المشرحة. يقول: "استيقظت عندما كانوا يخرجونني من درج ثلاجة المشرحة. فتحت عينيّ فوجدتني وسط عشرات الموتى بأكفانهم. لم يكن في وسعي سوى تحريك عينيّ. نظرت خلفي فوجدت باباً هناك من يحاول فتحه. ودخل ضابط قوات خاصة، سار بين الأكفان يتفقدها أو يعدها، ثم رحل في صمت".
يتابع: "كنت أرى وأسمع ما يدور من حولي، لكنني لا أقوى على الحركة أو الكلام. تصورت أنّ ضابط القوات الخاصة كان من المحتمل أن يقتلني لو علم أنّني ما زلت حياً". يتابع: "كان هناك أطباء وممرضون يدخلون من آن إلى آخر.. لم أشعر بشيء بعد ذلك".
إلى هنا تتوقف الرواية في ذاكرة "أ.أ"، ويكمل الحديث كما رواه له شقيقه وأطباؤه: "بعدما فقدت الوعي من جديد، أعادوني إلى الثلاجة، وكانوا قد أخرجوا كلّ الجثث من أجل تدوين اسم كلّ منها على الكفن، استعداداً لاستقبال ذويهم الذين سيدخلون من أجل التعرف عليهم، ثم أعادوهم إلى أدراج الثلاجة من جديد".
كان أهله قد علموا بنبأ وفاته، من خلال اتصال هاتفي من مجهول أفادهم عن إصابته إصابة بالغة ونقله إلى المشرحة، بعدما اتصل برقم الهاتف الذي كان قد دونه على ذراعه، وهو ما اعتاد المتظاهرون فعله بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، تحسباً لأي مكروه.
اقــرأ أيضاً
يتابع "أ.أ": "وصل أشقائي إلى المشرحة، وأرادوا الدخول للتعرف عليّ وتسلّم جثتي. فوجئوا بالأطباء يبلغونهم باستصدار شهادة وفاة دوّنوا فيها في خانة السبب: انتحار أو هبوط حاد في الدورة الدموية. وهو ما أثار غضبهم الشديد، ونشبت مشاجرة بين شقيقي والطبيب الذي أخبره بذلك، ولم تهدأ المشاجرة إلّا بعدما أخبره أحد العمال أنّه سيسمح له بالدخول إلى المشرحة والتعرف على شقيقه، لكن من دون إحداث ضجيج يوحي للآخرين بالفعل نفسه".
دخل شقيق "أ.أ" إلى الثلاجة، فسأله العامل: "ما اسم أخيك؟". فرد عليه، وتوجه خلفه إلى أحد أدراج الثلاجة، فتحه وتعرّف على شقيقه، قال: "ما زالت الحياة تدبّ فيه". كانت تلك الجملة التي قالها شقيق "أ.أ" لعامل المشرحة كفيلة بأن تبقيه مذهولاً، قبل أن يرد عليه: "كيف ما زال حياً، وقد دخلت رصاصة في دماغه؟". فأعاد شقيقه التأكد من النبض، وبالفعل تأكد العامل معه أنّ "أ.أ" ما زال حياً.
يتابع "أ.أ" النقل عن رواية شقيقه: "العامل هرول باحثاً عن طبيب المشرحة، ليخبره بما دار في الداخل، وما إن وصل الطبيب وتأكد من وجود النبض حتى صرخ: "يجب أن ينقل فوراً إلى العمليات". فكر الطبيب قليلاً في كيفية إخراج "أ.أ" من المشرحة من دون إصدار شهادة وفاة بالانتحار أو هبوط حاد في الدورة الدموية، كما أملى على الجميع، وكيف أيضاً يمكن أن يخرج به وسط احتشاد مئات الأهالي في الخارج، وكيف يحاول إنقاذ روح قد تكون تلك هي أنفاسها الأخيرة إذا ما تُركت تنزف. فجاءته فكرة قالها لشقيق "أ.أ"، وهي أن يحضر له معطف طبيب أبيض، ويطلب منه أن يسير في جواره في هدوء إلى أن يتمكنوا من جر السرير الذي يحمل "أ.أ" من الباب الخلفي للمشرحة الملاصقة لمستشفى قصر العيني، وسط القاهرة.
نجحت الفكرة. ونجحت العملية الأولى لاستخراج الرصاصة من رأسه، لكن بعدما وقّع شقيقه على تعهد بتحمله المسؤولية الكاملة عن أيّ مضاعفات قد تنتج عن العملية التي لا تتخطى نسبة نجاحها 5 في المائة. يتابع "أ.أ": "بعد العملية الأولى، انتقلت إلى غرفة العناية المركزة، وبعدها أجريت عملية أخرى لاستخراج رصاصة كانت في جوار حاجب عيني اليسرى".
يعيش حاليا "أ.أ" بشلل نصفي ويرى بعين واحدة، بعدما فشلت العملية التي أجريت لاستخراج الرصاصة من حاجب عينه. يستخدم عكازاً بعد عدد كبير من جلسات العلاج الطبيعي التي تلقاها في دار الرعاية والتأهيل. كذلك، أصيب بفقدان جزئي للذاكرة يجعله لا يتذكر الحاضر القريب. مع ذلك يؤكد: "كيف أنسى أنني عدت من بين الموتى؟".
اقــرأ أيضاً
خرج المصري "أ.أ" من درج المشرحة مباشرة إلى غرفة العمليات ومنها إلى العناية المركزة. ما زال حياً بالرغم من الحادثة التي جرت في مثل هذا اليوم من عام 2013.
"أ.أ"، الذي يفضّل التحفظ على ذكر اسمه خشية الملاحقات الأمنية، شاب مصري ثلاثيني كان حاضراً في عملية فض ميدان النهضة من المعتصمين في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013، حيث كان أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، يتجمعون في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة، والنهضة بالجيزة، حتى ارتكبت مذبحة بشرية راح ضحيتها كثيرون.
يتحدث "أ.أ" إلى "العربي الجديد"، فيما يتلقى علاجاً طبيعياً في دار للرعاية والتأهيل، عن قصته التي يتذكر فيها الجزء الذي كان فيه حياً يرزق. ثم ينقل عن شقيقه وأطبائه الجزء الآخر عندما كان "في عداد الموتى". يقول: "كنت من ضمن المجموعة التي تسعف المصابين في اعتصام النهضة. أذكر أنّ آخر من أنقذته كانت سيدة مسنة، حاولت سحبها إلى فندق شهير يطل على الميدان، وما أن لف بنا باب المدخل الدائري، حتى فوجئت بإطلاق نار".
كانت تلك هي اللقطة الأخيرة التي يتذكرها قبل أن يستيقظ ويجد نفسه في المشرحة. يقول: "استيقظت عندما كانوا يخرجونني من درج ثلاجة المشرحة. فتحت عينيّ فوجدتني وسط عشرات الموتى بأكفانهم. لم يكن في وسعي سوى تحريك عينيّ. نظرت خلفي فوجدت باباً هناك من يحاول فتحه. ودخل ضابط قوات خاصة، سار بين الأكفان يتفقدها أو يعدها، ثم رحل في صمت".
يتابع: "كنت أرى وأسمع ما يدور من حولي، لكنني لا أقوى على الحركة أو الكلام. تصورت أنّ ضابط القوات الخاصة كان من المحتمل أن يقتلني لو علم أنّني ما زلت حياً". يتابع: "كان هناك أطباء وممرضون يدخلون من آن إلى آخر.. لم أشعر بشيء بعد ذلك".
إلى هنا تتوقف الرواية في ذاكرة "أ.أ"، ويكمل الحديث كما رواه له شقيقه وأطباؤه: "بعدما فقدت الوعي من جديد، أعادوني إلى الثلاجة، وكانوا قد أخرجوا كلّ الجثث من أجل تدوين اسم كلّ منها على الكفن، استعداداً لاستقبال ذويهم الذين سيدخلون من أجل التعرف عليهم، ثم أعادوهم إلى أدراج الثلاجة من جديد".
كان أهله قد علموا بنبأ وفاته، من خلال اتصال هاتفي من مجهول أفادهم عن إصابته إصابة بالغة ونقله إلى المشرحة، بعدما اتصل برقم الهاتف الذي كان قد دونه على ذراعه، وهو ما اعتاد المتظاهرون فعله بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، تحسباً لأي مكروه.
يتابع "أ.أ": "وصل أشقائي إلى المشرحة، وأرادوا الدخول للتعرف عليّ وتسلّم جثتي. فوجئوا بالأطباء يبلغونهم باستصدار شهادة وفاة دوّنوا فيها في خانة السبب: انتحار أو هبوط حاد في الدورة الدموية. وهو ما أثار غضبهم الشديد، ونشبت مشاجرة بين شقيقي والطبيب الذي أخبره بذلك، ولم تهدأ المشاجرة إلّا بعدما أخبره أحد العمال أنّه سيسمح له بالدخول إلى المشرحة والتعرف على شقيقه، لكن من دون إحداث ضجيج يوحي للآخرين بالفعل نفسه".
دخل شقيق "أ.أ" إلى الثلاجة، فسأله العامل: "ما اسم أخيك؟". فرد عليه، وتوجه خلفه إلى أحد أدراج الثلاجة، فتحه وتعرّف على شقيقه، قال: "ما زالت الحياة تدبّ فيه". كانت تلك الجملة التي قالها شقيق "أ.أ" لعامل المشرحة كفيلة بأن تبقيه مذهولاً، قبل أن يرد عليه: "كيف ما زال حياً، وقد دخلت رصاصة في دماغه؟". فأعاد شقيقه التأكد من النبض، وبالفعل تأكد العامل معه أنّ "أ.أ" ما زال حياً.
يتابع "أ.أ" النقل عن رواية شقيقه: "العامل هرول باحثاً عن طبيب المشرحة، ليخبره بما دار في الداخل، وما إن وصل الطبيب وتأكد من وجود النبض حتى صرخ: "يجب أن ينقل فوراً إلى العمليات". فكر الطبيب قليلاً في كيفية إخراج "أ.أ" من المشرحة من دون إصدار شهادة وفاة بالانتحار أو هبوط حاد في الدورة الدموية، كما أملى على الجميع، وكيف أيضاً يمكن أن يخرج به وسط احتشاد مئات الأهالي في الخارج، وكيف يحاول إنقاذ روح قد تكون تلك هي أنفاسها الأخيرة إذا ما تُركت تنزف. فجاءته فكرة قالها لشقيق "أ.أ"، وهي أن يحضر له معطف طبيب أبيض، ويطلب منه أن يسير في جواره في هدوء إلى أن يتمكنوا من جر السرير الذي يحمل "أ.أ" من الباب الخلفي للمشرحة الملاصقة لمستشفى قصر العيني، وسط القاهرة.
نجحت الفكرة. ونجحت العملية الأولى لاستخراج الرصاصة من رأسه، لكن بعدما وقّع شقيقه على تعهد بتحمله المسؤولية الكاملة عن أيّ مضاعفات قد تنتج عن العملية التي لا تتخطى نسبة نجاحها 5 في المائة. يتابع "أ.أ": "بعد العملية الأولى، انتقلت إلى غرفة العناية المركزة، وبعدها أجريت عملية أخرى لاستخراج رصاصة كانت في جوار حاجب عيني اليسرى".
يعيش حاليا "أ.أ" بشلل نصفي ويرى بعين واحدة، بعدما فشلت العملية التي أجريت لاستخراج الرصاصة من حاجب عينه. يستخدم عكازاً بعد عدد كبير من جلسات العلاج الطبيعي التي تلقاها في دار الرعاية والتأهيل. كذلك، أصيب بفقدان جزئي للذاكرة يجعله لا يتذكر الحاضر القريب. مع ذلك يؤكد: "كيف أنسى أنني عدت من بين الموتى؟".