خرجت تظاهرات جديدة في محافظات مصرية عدة، أمس الجمعة، لمطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالرحيل، وسط تحدي المحتجين لكل الإجراءات الأمنية المشددة ومحاولات الترهيب التي قادتها السلطات منذ يوم تظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الحالي، والتي أثارت قلق النظام بشكل واضح، وانعكست على التعامل الأمني في الشوارع فضلاً عن لجوء دائرة السيسي إلى لعبة الحشد المضاد، ومحاولة استمالة البسطاء بالرشى، عبر "كراتين" المواد الغذائية. وخرجت تظاهرات أمس مطالبة برحيل السيسي في مناطق الوراق والصف في محافظة الجيزة، وفي حلوان بالقاهرة، بالإضافة إلى تظاهرات في محافظات الإسكندرية والمنيا وسوهاج وقنا والأقصر، استجابة لدعوة التظاهر التي أطلقها رجل الأعمال محمد علي تحت شعار "جمعة الخلاص"، على خلفية تورط الرئيس الحالي في وقائع هدر للمال العام.
وسرعان ما استخدمت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع من أجل تفريق المتظاهرين في المحافظات كافة التي خرجت فيها الاحتجاجات، بعد مطاردتهم في الشوارع الجانبية، واعتقال العشرات منهم، في الوقت الذي شهدت فيه مناطق وسط القاهرة تشديداً أمنياً غير مسبوق، شمل إغلاق جميع الطرق والمنافذ المؤدية إلى ميدان التحرير، وكذلك لمحطات مترو أنفاق الأوبرا، وأنور السادات، وجمال عبد الناصر، وأحمد عرابي. كذلك، نفّذت قوات الشرطة حملات أمنية موسعة على مناطق عابدين، وقصر النيل، والسيدة زينب، والمنيرة، وباب اللوق، ورمسيس في القاهرة، فيما واصلت تفتيش هواتف المارة وسؤالهم عن اتجاهاتهم السياسية، واعتقال الكثير من "المشتبه بهم". في موازاة ذلك، كثفت قوات الشرطة من وجودها في محيط شارع النصر بمدينة نصر، شرقي القاهرة، بغرض تأمين المواطنين المؤيدين للسيسي، بعد حشدهم من قبل أجهزة الأمن ورجال الأعمال وأعضاء البرلمان الموالين للسلطة الحاكمة، فيما تولى حزب "مستقبل وطن" الذي تديره المخابرات العامة، توزيع "كراتين" مواد غذائية على المواطنين، مقابل المشاركة في "احتفالية" التأييد للسيسي.
في غضون ذلك، بدا الفارق شاسعاً بين اللهجة المتعالية التي تحدث بها السيسي، أمس، لدى عودته من نيويورك، ووصوله لقصر الاتحادية الرئاسي، وبين الواقع الفعلي على الأرض في المدن الكبرى ومختلف الميادين والشوارع في جميع المحافظات. فالسيسي الذي حاول اصطناع درجة عالية من الثقة والتمكن والتأكد من قوة نظامه وتماسكه، لم يشر إلى التشديدات الأمنية غير المسبوقة التي أجرتها الشرطة في محيط جميع الميادين بالمدن الكبرى، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي تم إغلاقه بالكامل منذ العاشرة من صباح أمس، وإغلاق جميع محطات المترو بوسط القاهرة وقطع طرق المواصلات العامة بتحويلات مرورية عديدة.
اقــرأ أيضاً
وعكس حديث السيسي المسجل مع مجموعة منتقاة من الجماهير التي تمّ حشدها بحافلات تابعة لحزب "مستقبل وطن" المدار بواسطة المخابرات العامة، وعدد من الهيئات الحكومية المصرية، قلقاً دفيناً من تصاعد الانتفاضة الشعبية ضدّ حكمه التي اندلعت يوم الجمعة في 20 سبتمبر/ أيلول الحالي، بالتوازي مع قرار اتخذ فعلياً من نيويورك بتصعيد درجة القمع وغلق المجال العام نهائياً أمام المعارضين، نتج عنه اعتقال ما يقرب من ألفي شخص لا ينتمون لفئة اقتصادية أو طائفة مهنية أو شريحة عمرية محددة، بل ينتمون إلى مختلف مكونات الشعب المصري. وقد اعترف النائب العام حمادة الصاوي، المعين بقرار من السيسي، مساء الخميس الماضي، بأنه تم التحقيق مع أقل من ألف شخص منهم.
كما عكس حديث السيسي سعيه إلى العودة لطريقة التعامل بالحشود المضادة والمنساقة لإجهاض أي حراك شعبي معارض له، مظهراً بذلك وعيه القائم لمسألة مدى سقوط شرعيته السياسية تأثراً بالتعديلات الدستورية الأخيرة التي مثلت انقلاباً على الدستور الذي انتخب على أساسه، وكذلك مدى احتياج الثوار ضده لتأكيد قوتهم الشعبية المتخيلة بالحشد في الشارع لإسقاط شعبيته التي يستند إليها دائماً والمتمثلة في تظاهرات 26 يوليو/ تموز 2013 المعروفة بـ"تظاهرات التفويض ضد الإرهاب"، والتي يشير إليها السيسي دائماً في خطاباته باعتبارها مرجعاً لتوطيد دعائم حكمه.
فالطريقة التي تحدث بها الرئيس الحالي عن نفسه وعن نظامه، وتصوراته عن الشرعية السياسية ومعركة الحشود، تجافي تماماً ما يبشر به بعض الإعلاميين والسياسيين المقربين من النظام، وما انتقل من صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى شاشات وسائل الإعلام المدارة بأمر المخابرات في الأيام الخمسة الأخيرة، بهدف تهدئة الرأي العام ومخاطبة الشريحة الأكثر ثقافة واهتماماً بقضايا المجال العام. وهي الشريحة التي يراهن نظام السيسي حالياً على مخاوفها من تردي الأوضاع الاقتصادية ومغبة التقلبات السياسية، كعامل أساسي لإفشال أو إبطاء وتيرة الانتفاضة التي يبدو المشاركون فيها منتمين بشكل أكبر للفئات المطحونة اقتصادياً، والأكثر تأثراً من سياسات الإفقار التي يتبعها السيسي.
وكان الكاتب الصحافي ياسر رزق، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار القومية والمقرب من السيسي، قد كتب مقالين منذ اندلاع أزمة مقاطع الفيديو التي بثها المقاول والممثل محمد علي، حاول فيهما الترويج لضرورة أن يشهد الأفق السياسي والإعلامي في مصر انفتاحاً افتقر إليه في السنوات الأربع الأخيرة، وبلغ ذروته بتحكم دائرة السيسي المخابراتية الرقابية بمعظم المؤسسات الإعلامية، فضلاً عن إلغاء دور معظم الأحزاب السياسية والتضييق عليها حتى الموالية للسلطة منها.
وتلا رزق في الخروج بهذه الأفكار عدد من الإعلاميين الذين عادوا للظهور على شاشات قنوات المخابرات، وكذلك بعض الشخصيات السياسية التي عادت للحديث عن ضرورة حلحلة المشهد وإتاحة الفرصة لمعارضة "محدودة" و"مسؤولة"، مع الإبقاء على الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في النظام السياسي.
وفي هذا الإطار، اعتبرت مصادر حكومية وأمنية مصرية مطلعة، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ هذا الترويج نتيجة مزيج بين أمرين؛ الأول آراء أصيلة من مجموعات ودوائر مختلفة بالنظام الحاكم تتقاطع بين المخابرات العامة والأمن الوطني والإعلام، والأمر الثاني محاولات كاذبة من دائرة السيسي نفسها التي يديرها مدير المخابرات العامة عباس كامل ونجل رئيس الجمهورية محمود السيسي، لمغازلة الشريحة الأكثر ثقافة من الرأي العام والإعلاميين والأكاديميين، وإتاحة مساحة حركة وتفاوض مستقبلاً على بعض المكتسبات المتعلقة بالمجال العام.
وكشفت المصادر أنّه خلال الفترة الماضية، قبل ظهور محمد علي، ثارت من جديد نقاشات موسعة بين دوائر النظام وشخصيات بارزة "يثق فيها السيسي لكنها لا تحظى بترحيب كامل من عباس كامل أو محمود السيسي" حول مدى أهمية فتح المجال العام جزئياً، وإتاحة الفرصة لظهور إعلام حرّ من جديد يلقي الضوء على المشاكل والسلبيات. كما ذهبت بعض الآراء، وفق المصادر، لأبعد من ذلك، وطالبت السيسي بالإفراج عن شخصيات معارضة بعينها، مثل رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح، وإنهاء القضية الخاصة بنشطاء المجتمع المدني والحقوقيين الممنوعين من السفر والتصرف في أموالهم. غير أن السيسي بنفسه رفض ذلك بحجة أن "اتخاذ أي خطوة تراجع ستضع الدولة كلها تحت الضغط".
وكشفت المصادر نفسها أنه في الأيام الأولى بعد ظهور محمد علي، أعيد فتح الموضوع مرة أخرى خلال الاجتماع الذي عقد في منتصف الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، بين محمود السيسي وعدد من مسؤولي "إعلام المصريين"، الجناح الدعائي للمخابرات، ومديري بعض القنوات، ومسؤولي الهيئة الوطنية للإعلام المسيطرة على المؤسسات الصحافية القومية واتحاد الإذاعة والتلفزيون. وخلال الاجتماع، رفض محمود السيسي بوضوح وصرامة، وبلهجة استعلائية أثارت توتر بعض الحضور، اتخاذ أي خطوة للخلف أو إبداء أي مرونة تجاه القوى المعارضة.
وبعد الاستقرار على خروج السيسي في خطاب مباشر للجماهير بإقامة "مؤتمر الشباب" الثامن لهذا الغرض، وما تبعه ظهوره من تفاقم للمشاعر والتعليقات السلبية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تغيّرت رؤية دائرة السيسي قليلاً للمسألة، وتم استدعاء خطاب التبشير بالانفتاح السياسي والإعلامي مرة أخرى، كواحد من الحلول المقترح تجريبها لتهدئة الرأي العام. ثمّ عاد هذا الخطاب للخفوت مرة أخرى مع قرب عودة السيسي من نيويورك، وتعليماته باستنزاف المجتمع أمنياً، من خلال حملة الاعتقالات الضخمة التي طاولت جميع المحافظات، وإدخال المعتقلين والمجموعات الحقوقية المساعدة لهم في دوامة لم تهدأ من الملاحقات والإجراءات والتحقيقات وقرارات الحبس، كان لها دور كبير في تزايد سخط الشريحة الأكثر ثقافة ومتابعة من المواطنين، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومع التسليم باستبعاد تحقق هذا الانفتاح، خصوصاً إذا بقي النظام مضغوطاً وملاحقاً بدعوات التظاهر التي تستنزفه أمنياً ومالياً وإعلامياً، وفقاً للمصادر، فإنّ هناك عقبة تأسيسية تجعل أي انفتاح سياسي في عهد السيسي في حكم المستحيل، وهي أن شرعيته التي يتصورها مستمدة في الأساس من إقصاء مجموعة كبيرة من الفصائل السياسية من المشهد السياسي، وتخوين تيارات وأحزاب أخرى، وإعدام فرص خروج المعتقلين من جميع الأطياف للحياة من جديد، ما أدخل نظامه في خصومة "دموية" مع الإسلاميين واليسار، ثمّ دخل في خصومة أخرى مع القوى القومية والناصرية التي كانت تؤيده حتى تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
كما أنّ الشخصيات التي يستند إليها السيسي في إدارة المشهدين السياسي والإعلامي، وعلى رأسها نجله محمود، لا تملك موهبة أو خبرة التعامل مع طيف واسع من الآراء والمعتقدات، لسبب أساسي، هو انتماؤها جميعاً لمؤسسة مغلقة وهي الجيش، في الوقت الذي تم فيه، بحسب المصادر، إخلاء دائرته تماماً من الكتاب والأكاديميين والسياسيين وضباط الأمن الوطني الأكثر دراية في التعاطي مع المستجدات السياسية منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. كما تم تشكيل ما يشبه الجدار العازل بينه وبين الشخصيات الإعلامية التي كان يثق فيها ويتواصل معها دائماً قبل عام 2015، حينما كان يطمح لنموذج حاكم قريب من الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات اللذين كانا محاطين بمستشارين من الصحافيين والأكاديميين ورجال الأعمال. وأشارت المصادر إلى أنّ السيسي ودائرته كانت أمامهم فرص عديدة أكثر مناسبة لتحقيق هذا الانفتاح السياسي قبل أن يصاب المشهد العام بالانسداد ويخرج المصريون ضده في الانتفاضة الحالية، لا سيما في فترة التعديلات الدستورية الأخيرة التي رسخت حكم الفرد وسلطة الجيش وألغت استقلال القضاء. لكن السيسي آنذاك رفض أيضاً "اتخاذ أي خطوة تبدو وكأنها تراجع أو مغازلة"، وهي اللافتة نفسها التي ترفعها حالياً دائرته في مواجهة الدعوات الداخلية لتخفيف القيود على المجال العام، معتبرةً أن "أي بادرة للانفتاح ستكون هزيمة".
اقــرأ أيضاً
في غضون ذلك، بدا الفارق شاسعاً بين اللهجة المتعالية التي تحدث بها السيسي، أمس، لدى عودته من نيويورك، ووصوله لقصر الاتحادية الرئاسي، وبين الواقع الفعلي على الأرض في المدن الكبرى ومختلف الميادين والشوارع في جميع المحافظات. فالسيسي الذي حاول اصطناع درجة عالية من الثقة والتمكن والتأكد من قوة نظامه وتماسكه، لم يشر إلى التشديدات الأمنية غير المسبوقة التي أجرتها الشرطة في محيط جميع الميادين بالمدن الكبرى، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي تم إغلاقه بالكامل منذ العاشرة من صباح أمس، وإغلاق جميع محطات المترو بوسط القاهرة وقطع طرق المواصلات العامة بتحويلات مرورية عديدة.
وعكس حديث السيسي المسجل مع مجموعة منتقاة من الجماهير التي تمّ حشدها بحافلات تابعة لحزب "مستقبل وطن" المدار بواسطة المخابرات العامة، وعدد من الهيئات الحكومية المصرية، قلقاً دفيناً من تصاعد الانتفاضة الشعبية ضدّ حكمه التي اندلعت يوم الجمعة في 20 سبتمبر/ أيلول الحالي، بالتوازي مع قرار اتخذ فعلياً من نيويورك بتصعيد درجة القمع وغلق المجال العام نهائياً أمام المعارضين، نتج عنه اعتقال ما يقرب من ألفي شخص لا ينتمون لفئة اقتصادية أو طائفة مهنية أو شريحة عمرية محددة، بل ينتمون إلى مختلف مكونات الشعب المصري. وقد اعترف النائب العام حمادة الصاوي، المعين بقرار من السيسي، مساء الخميس الماضي، بأنه تم التحقيق مع أقل من ألف شخص منهم.
كما عكس حديث السيسي سعيه إلى العودة لطريقة التعامل بالحشود المضادة والمنساقة لإجهاض أي حراك شعبي معارض له، مظهراً بذلك وعيه القائم لمسألة مدى سقوط شرعيته السياسية تأثراً بالتعديلات الدستورية الأخيرة التي مثلت انقلاباً على الدستور الذي انتخب على أساسه، وكذلك مدى احتياج الثوار ضده لتأكيد قوتهم الشعبية المتخيلة بالحشد في الشارع لإسقاط شعبيته التي يستند إليها دائماً والمتمثلة في تظاهرات 26 يوليو/ تموز 2013 المعروفة بـ"تظاهرات التفويض ضد الإرهاب"، والتي يشير إليها السيسي دائماً في خطاباته باعتبارها مرجعاً لتوطيد دعائم حكمه.
وتوافدت مئات الحافلات من مناطق مختلفة بالقاهرة والجيزة والقليوبية أولاً، ثمّ من محافظات الصعيد والوجه البحري إلى منطقة النصب التذكاري وميدان رابعة العدوية (هشام بركات حالياً) بمدينة نصر للمشاركة في تظاهرات التأييد. وقدرت مصادر بحزب "مستقبل وطن" عدد الحافلات الكبيرة من محافظتي أسيوط والمنيا فقط بأكثر من 600، وعدد الحافلات الصغيرة (الميكروباص) من الجيزة فقط بأكثر من 500، ومن القاهرة بأكثر من ألف ميكروباص، تكفّل بمصاريفها بالكامل رجال الأعمال الموالون للنظام، مع صرف وجبات غذائية للمواطنين وتوزيع ملصقات وأعلام ولافتات.
وقال السيسي لدى وصوله إلى قصر الاتحادية، أمس، إنه إذا أراد دعوة المصريين إلى تظاهرات تفويض جديدة، كما حدث في يوليو 2013 "فسوف يتجمع الملايين مش أقل من كده". وألقى السيسي هذه العبارة ذات الدلالة الكبيرة على عدم احترامه كلمته السابقة عن "استقالته إذا نزل الشعب ضده" فضلاً عن تجديد تأكيده على فكرة "شرعية الحشد" بدلاً من "الشرعية السياسية الدستورية" المستندة إلى الرضا الشعبي في انتخابات واستفتاءات حرة ونزيهة، وهو محاط بالعشرات من العناصر التأمينية عالية التدريب. ويأتي ذلك على الرغم من إعداد المخابرات لمشهد لقائه بالجماهير بصورة محكمة، لكنها قُدّمت للرأي العام في النهاية وكأنها تظاهرة عفوية ولدت في الفراغ، وقد حاول السيسي إسباغ هذه الصفة المنتحلة عليها بقوله "إنتو إيه اللي مصحيكو بدري". مسرحية المشهد والعبارات القليلة التي أدلى بها السيسي، لا تقتصر دلالاتها فقط على قلق النظام وخوفه من سقوط حكمه عاجلاً أم آجلاً بسهام انطلقت منذ 8 أيام، بل تعكس أيضاً الطريقة التي سيدير بها هذا النظام المشهد في الفترة المتبقية من عمره.فالطريقة التي تحدث بها الرئيس الحالي عن نفسه وعن نظامه، وتصوراته عن الشرعية السياسية ومعركة الحشود، تجافي تماماً ما يبشر به بعض الإعلاميين والسياسيين المقربين من النظام، وما انتقل من صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى شاشات وسائل الإعلام المدارة بأمر المخابرات في الأيام الخمسة الأخيرة، بهدف تهدئة الرأي العام ومخاطبة الشريحة الأكثر ثقافة واهتماماً بقضايا المجال العام. وهي الشريحة التي يراهن نظام السيسي حالياً على مخاوفها من تردي الأوضاع الاقتصادية ومغبة التقلبات السياسية، كعامل أساسي لإفشال أو إبطاء وتيرة الانتفاضة التي يبدو المشاركون فيها منتمين بشكل أكبر للفئات المطحونة اقتصادياً، والأكثر تأثراً من سياسات الإفقار التي يتبعها السيسي.
وكان الكاتب الصحافي ياسر رزق، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار القومية والمقرب من السيسي، قد كتب مقالين منذ اندلاع أزمة مقاطع الفيديو التي بثها المقاول والممثل محمد علي، حاول فيهما الترويج لضرورة أن يشهد الأفق السياسي والإعلامي في مصر انفتاحاً افتقر إليه في السنوات الأربع الأخيرة، وبلغ ذروته بتحكم دائرة السيسي المخابراتية الرقابية بمعظم المؤسسات الإعلامية، فضلاً عن إلغاء دور معظم الأحزاب السياسية والتضييق عليها حتى الموالية للسلطة منها.
وتلا رزق في الخروج بهذه الأفكار عدد من الإعلاميين الذين عادوا للظهور على شاشات قنوات المخابرات، وكذلك بعض الشخصيات السياسية التي عادت للحديث عن ضرورة حلحلة المشهد وإتاحة الفرصة لمعارضة "محدودة" و"مسؤولة"، مع الإبقاء على الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في النظام السياسي.
وفي هذا الإطار، اعتبرت مصادر حكومية وأمنية مصرية مطلعة، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ هذا الترويج نتيجة مزيج بين أمرين؛ الأول آراء أصيلة من مجموعات ودوائر مختلفة بالنظام الحاكم تتقاطع بين المخابرات العامة والأمن الوطني والإعلام، والأمر الثاني محاولات كاذبة من دائرة السيسي نفسها التي يديرها مدير المخابرات العامة عباس كامل ونجل رئيس الجمهورية محمود السيسي، لمغازلة الشريحة الأكثر ثقافة من الرأي العام والإعلاميين والأكاديميين، وإتاحة مساحة حركة وتفاوض مستقبلاً على بعض المكتسبات المتعلقة بالمجال العام.
وكشفت المصادر أنّه خلال الفترة الماضية، قبل ظهور محمد علي، ثارت من جديد نقاشات موسعة بين دوائر النظام وشخصيات بارزة "يثق فيها السيسي لكنها لا تحظى بترحيب كامل من عباس كامل أو محمود السيسي" حول مدى أهمية فتح المجال العام جزئياً، وإتاحة الفرصة لظهور إعلام حرّ من جديد يلقي الضوء على المشاكل والسلبيات. كما ذهبت بعض الآراء، وفق المصادر، لأبعد من ذلك، وطالبت السيسي بالإفراج عن شخصيات معارضة بعينها، مثل رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح، وإنهاء القضية الخاصة بنشطاء المجتمع المدني والحقوقيين الممنوعين من السفر والتصرف في أموالهم. غير أن السيسي بنفسه رفض ذلك بحجة أن "اتخاذ أي خطوة تراجع ستضع الدولة كلها تحت الضغط".
وكشفت المصادر نفسها أنه في الأيام الأولى بعد ظهور محمد علي، أعيد فتح الموضوع مرة أخرى خلال الاجتماع الذي عقد في منتصف الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، بين محمود السيسي وعدد من مسؤولي "إعلام المصريين"، الجناح الدعائي للمخابرات، ومديري بعض القنوات، ومسؤولي الهيئة الوطنية للإعلام المسيطرة على المؤسسات الصحافية القومية واتحاد الإذاعة والتلفزيون. وخلال الاجتماع، رفض محمود السيسي بوضوح وصرامة، وبلهجة استعلائية أثارت توتر بعض الحضور، اتخاذ أي خطوة للخلف أو إبداء أي مرونة تجاه القوى المعارضة.
وبعد الاستقرار على خروج السيسي في خطاب مباشر للجماهير بإقامة "مؤتمر الشباب" الثامن لهذا الغرض، وما تبعه ظهوره من تفاقم للمشاعر والتعليقات السلبية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تغيّرت رؤية دائرة السيسي قليلاً للمسألة، وتم استدعاء خطاب التبشير بالانفتاح السياسي والإعلامي مرة أخرى، كواحد من الحلول المقترح تجريبها لتهدئة الرأي العام. ثمّ عاد هذا الخطاب للخفوت مرة أخرى مع قرب عودة السيسي من نيويورك، وتعليماته باستنزاف المجتمع أمنياً، من خلال حملة الاعتقالات الضخمة التي طاولت جميع المحافظات، وإدخال المعتقلين والمجموعات الحقوقية المساعدة لهم في دوامة لم تهدأ من الملاحقات والإجراءات والتحقيقات وقرارات الحبس، كان لها دور كبير في تزايد سخط الشريحة الأكثر ثقافة ومتابعة من المواطنين، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومع التسليم باستبعاد تحقق هذا الانفتاح، خصوصاً إذا بقي النظام مضغوطاً وملاحقاً بدعوات التظاهر التي تستنزفه أمنياً ومالياً وإعلامياً، وفقاً للمصادر، فإنّ هناك عقبة تأسيسية تجعل أي انفتاح سياسي في عهد السيسي في حكم المستحيل، وهي أن شرعيته التي يتصورها مستمدة في الأساس من إقصاء مجموعة كبيرة من الفصائل السياسية من المشهد السياسي، وتخوين تيارات وأحزاب أخرى، وإعدام فرص خروج المعتقلين من جميع الأطياف للحياة من جديد، ما أدخل نظامه في خصومة "دموية" مع الإسلاميين واليسار، ثمّ دخل في خصومة أخرى مع القوى القومية والناصرية التي كانت تؤيده حتى تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
كما أنّ الشخصيات التي يستند إليها السيسي في إدارة المشهدين السياسي والإعلامي، وعلى رأسها نجله محمود، لا تملك موهبة أو خبرة التعامل مع طيف واسع من الآراء والمعتقدات، لسبب أساسي، هو انتماؤها جميعاً لمؤسسة مغلقة وهي الجيش، في الوقت الذي تم فيه، بحسب المصادر، إخلاء دائرته تماماً من الكتاب والأكاديميين والسياسيين وضباط الأمن الوطني الأكثر دراية في التعاطي مع المستجدات السياسية منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. كما تم تشكيل ما يشبه الجدار العازل بينه وبين الشخصيات الإعلامية التي كان يثق فيها ويتواصل معها دائماً قبل عام 2015، حينما كان يطمح لنموذج حاكم قريب من الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات اللذين كانا محاطين بمستشارين من الصحافيين والأكاديميين ورجال الأعمال. وأشارت المصادر إلى أنّ السيسي ودائرته كانت أمامهم فرص عديدة أكثر مناسبة لتحقيق هذا الانفتاح السياسي قبل أن يصاب المشهد العام بالانسداد ويخرج المصريون ضده في الانتفاضة الحالية، لا سيما في فترة التعديلات الدستورية الأخيرة التي رسخت حكم الفرد وسلطة الجيش وألغت استقلال القضاء. لكن السيسي آنذاك رفض أيضاً "اتخاذ أي خطوة تبدو وكأنها تراجع أو مغازلة"، وهي اللافتة نفسها التي ترفعها حالياً دائرته في مواجهة الدعوات الداخلية لتخفيف القيود على المجال العام، معتبرةً أن "أي بادرة للانفتاح ستكون هزيمة".