مصالحة مع محور الشر

14 سبتمبر 2015
+ الخط -
سنوات طويلة، كان التوتر والخلاف قوام العلاقة بين القوى الكبرى في العالم ودول مثل كوبا وإيران وسورية وكوريا الشمالية. وتعدّت الاتهامات والأوصاف التي أطلقتها الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، تلك الدول الأربع. فهي تارة دول "مارقة"، وتارة أخرى "محور الشر"، وفي كل الأوقات كانت متهمة برعاية الإرهاب ونشره في مناطق مختلفة من العالم. فضلاً عن سياساتها القمعية الشمولية تجاه شعوبها.
ولم ينجح الغرب، ولا ما يسمى المجتمع الدولي (ممثلاً في الأمم المتحدة)، في تغيير سياسات تلك الدول، بفضل دعم ومساندة أطراف دولية أخرى، في مقدمتها الصين وروسيا. ولأن أدوات الضغط والإرغام ذات جدوى محدودة، سواء كانت عقوبات اقتصادية أو عزلة دبلوماسية. الجديد أن الغرب بدأ هو الذي يتقرب إلى تلك الدول، فيما يبدو اعترافاً بإخفاق سياسة العداء والضغط السابقة، وبأن مرور الوقت مع التمسك بالسياسات والمواقف العدائية نفسها نتيجته الوحيدة لم تكن سوى مزيد من التنامي في قوة تلك الدول وأدوارها. والدليل أن العقوبات لم توقف البرنامج النووي الإيراني، إذ نجحت طهران في تسيير اقتصادها تحت سقف العقوبات، مع اختراق ذلك السقف، أحياناً، بمساعدة بكين وموسكو، ودول مجاورة لها. وتمكنت أيضًاً من الاستمرار في برنامجها النووي، حتى لم يعد يفصلها عن امتلاك رأس نووي سوى اتخاذ القرار وبعض الوقت لتنفيذه.
وعلى النمط نفسه، لم تنجح عزلة شاملة وعقوبات صارمة استمرت عقوداً، في إسقاط كاسترو (ثم شقيقه) أو تجبره على تغيير سياسات كوبا. بل على العكس، تمكّنت هافانا من إجبار واشنطن على التراجع، أخيراً، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما ورفع العقوبات.
وبعد أربع سنوات من الحرب بالوكالة، لم يسقط نظام بشار الأسد، ولم تنجح فصائل المعارضة السورية في إحكام السيطرة على امتداد الأراضي السورية، بفضل دعم إيراني روسي شامل وعميق. بينما اكتفت واشنطن والدول الغربية، طوال السنوات الأربع، بالعمل ضد النظام السوري سياسياً وإعلامياً، من دون تحرك فعلي مؤثر. بل إن فكرة تسليح قوات المعارضة وتدريبها استغرقت ثلاث سنوات، قبل تطبيقها بصورة جزئية غير فعالة.
وهكذا فشلت سياسة العزل والحصار، ليس فقط لأن الدول المستهدفة بها امتلكت القدرة على المناورة، والتغلب على العقوبات والضغوط. لكن، أيضاً لأن تلك السياسات والإجراءات لم تكن تطبق بالصرامة الكافية (كما في حالة إيران) أو كانت أقرب إلى ضجيجٍ من دون طحن، كما في الحالة السورية.
لذا، لم يكن مستغرباً أن يحدث نكوص كبير في تلك السياسات الغربية، وتغير القوى الكبرى من خطابها وسلوكها تجاه دولٍ، كانت تعتبرها، حتى الأمس القريب، عدوة للأمن والاستقرار في العالم. فما إن تم إبرام الاتفاق النووي الإيراني، إلا وبدأت الشركات الغربية في إيفاد رجالها إلى طهران، لاستكشاف فرص الاستثمار والتبادل التجاري مع إيران. وبعدها بأسابيع قليلة، زار وزير الخارجية البريطاني طهران، وأعيد افتتاح السفارة البريطانية هناك. وقام وزير الخارجية الأميركي بزيارة تاريخية إلى هافانا. ونسقت واشنطن مع نظام الأسد، ضمناً أو صراحة، في عمليات قصف داعش. وعلى الرغم من أن العلاقات الغربية مع كوريا الشمالية لم تشهد تطورات إيجابية مهمة، إلا أن لغة التهديد والوعيد المتبادلة تراجعت لحساب الأصوات العقلانية والحذرة بشأن مجمل الوضع في الجزيرة الكورية.
ومن المثير أن الدول الأربع "المارقة" محكومة بنظم دكتاتورية، حيث لا حريات ولا ديمقراطية ولا تنمية. لكن الأكثر إثارة أن أوضاعها الداخلية لم تكن عاملاً مؤثراً في السياسات الغربية تجاهها، لا بالعداء ولا بالتقارب.
انقلاب الغرب على مواقفه وسياساته السابقة، والتكالب على مصالحة دول كان يعتبرها "مارقة" و"إرهابية" واسترضائها، يبعث رسالة خاطئة أخلاقياً واقعية سياسياً. ويشجع أي نظام حكم على تحدّي شعبه والعالم، ما دام قادراً على البقاء، بدعم حلفائه وتخاذل أعدائه.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.