وقالت المصادر، التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، إن "كلفة التراجع عن الاتفاق مع السعودية الآن ستكون مرتفعة للغاية، لأن توقيع الاتفاقية لم يكن منفصلاً عن اتفاقيات أخرى"، مضيفة: "الواضح، أيضاً، أنه جرت تفاهمات إقليمية ودولية، لاحقة وسابقة، على التوقيع".
وفي الوقت الذي كرر السيسي، ومسؤولون مصريون آخرون، أن الاتفاقية حظيت بموافقة جميع الوزارات، والأجهزة السياسية والعسكرية في مصر، بدأت تسريبات تخرج من هذه الأجهزة تنفي حصول ذلك. ومن ذلك ما كشفته صفحة "الموقف المصري"، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أخيراً، والتي نشرت ما وصفته بـ"كواليس" ما جرى بوزارة الخارجية المصرية، قبل وبعد "تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير"، بموجب اتفاقية ترسيم الحدود في إبريل/نيسان الماضي.
وبدأت الصفحة في رصد "كواليس ما قبل تنازل الرئيس عن الجزيرتين"، بحسب قولها، إذ أكدت أن "الموقف الدائم للإدارة القانونية بوزارة الخارجية بعهود رؤساء مصر، منذ عصر (أنور) السادات، كان هو التمسك بمصرية الجزيرتين، وفي الوقت نفسه الاكتفاء رسمياً بمماطلة السعودية كلما طالبت بترسيم الحدود البحرية، نظراً لحساسية الملف، بسبب أهمية الجزيرتين، وبسبب أهمية العلاقات السعودية المصرية، خصوصاً أنه لو تمسك كلا الطرفين برأيه فسيكون الملجأ هو التحكيم الدولي، وهو ما تجنبته الدولة المصرية باستمرار للحفاظ على عدم تدهور العلاقات مع السعودية".
ويضيف المصدر أن "وزير الخارجية سامح شكري استطلع رأي الإدارة القانونية بالوزارة، وتم إبلاغه بالموقف القديم الثابت بعدم أحقية السعودية في الجزر، وأيضاً بأن النصيحة هي المماطلة بالإجراءات الفنية والقانونية المعقدة للحفاظ على العلاقات مع السعودية. لينقل شكري هذا الموقف إلى رئاسة الجمهورية، وتحديداً إلى الرئيس السيسي". غير أن الرئاسة لم تبدِ أي تحفظ أو ملاحظات على موقف وزارة الخارجية، ولم يتم إبلاغ الدبلوماسيين بأي شيء يغيّر الوضع، لكن التغيّر المفاجئ حدث قبل يومين فقط من وصول العاهل السعودي الملك سلمان إلى القاهرة.
وتكشف الصفحة أن مندوبا من رئاسة الجمهورية زار وزير الخارجية في مكتبه، وطلب منه أن تسعى وزارة الخارجية والإدارة القانونية للحصول على وثائق تساند الموقف السعودي، وتؤكد أن "الجزيرتين سعوديتان"، ليتكلف وزير الخارجية بنقل الطلب لموظفي الخارجية، ويعلن دعمه لتوجيه رئاسة الجمهورية الذي يؤكد على أنه يجب التصرف لتصبح "الجزيرتان سعوديتين"، وتابعت: "رد الإدارة القانونية كان غير مرحّب بفكرة سعودية الجزيرتين، وعدد كبير من أعضاء الإدارة قالوا بشكل واضح في اجتماعات رسمية، ومنها اجتماعات عقدها الوزير في مكتب الإدارة القانونية نفسها، إن قرار رئاسة الجمهورية خاطئ من الناحية القانونية، ومن الناحية السياسية، وكذلك من ناحية المعاهدات والوثائق الدولية"، حتى أن عددا من كبار موظفي الخارجية شددوا، بحضور الوزير في اجتماع رسمي، وبشكل واضح، على أنهم "أبرياء من هذا الاتفاق".
وتنقل الصفحة أن وزير الخارجية، وردّاً على رأي خبراء الوزارة، قال لأعضاء الإدارة القانونية إن الاتفاق مع السعودية هو قرار سياسي اتخذه رئيس الجمهورية، و"إن إحنا مش محتاجين لأسانيد (مستندات) قانونية ولا حجج تدعم موقفنا". ورغم تحذير الإدارة القانونية وموقف موظفيها، أصر شكري على أن يقوم الفريق القانوني باستخراج الوثائق التي باستطاعة الوزارة تفسيرها لكي تقول إن الجزيرتين سعوديتان، واستخدم شكري نفوذه والضغط المؤسسي والأمني لإجبارهم على أن يكون رأيهم القانوني في صالح السعودية.
أما عن كواليس ما بعد تنازل الرئيس عن الجزيرتين، فأفادت الصفحة بأنه "منذ حوالي أسبوعين، دعا الوزير سامح شكري موظفي الخارجية للقاء في مقر الوزارة، بهدف مناقشة موضوع الجزيرتين، لكن الذي حصل أن الوزير لم يتكلم في البداية إطلاقاً عن الموضوع، وتحدث بشكل عام عن أن الدبلوماسي يجب ألا يكون له رأي سياسي، وقال إنه هو شخصياً كوزير ملتزم بذلك، ويمثل رأي الدولة الرسمي فقط"، لتوضح أن لا أحد استطاع الرد عليه، رغم علمهم أن "شكري كان أحد المتظاهرين يوم 30 يونيو/حزيران، وكان من ضمن المشاركين في تظاهرة وصلت حتى قصر الاتحادية". وينقل المصدر ذاته أن كلمات الوزير جاءت مشحونة بنبرة تهديد ووعيد لكل من يتحدث من الدبلوماسيين عن الجزيرتين، "بحيث كانت الرسالة أن التهديد لن يكون مجرد كلام فقط"، إذ أكد أن "أنا أقدر كمان أحوّل تهديدي لفعل"، وذلك ما كان، بحيث لم "تتم مناقشة موضوع الجزيرتين الذي دعا الدبلوماسيين للاجتماع بشأنه إلا بعد أن اضطر بعض الحاضرين، ومنهم مساعدوه، لفتح النقاش حولهما".
ونقلت الصفحة أن "أحد مساعدي الوزير تساءل عن سبب عدم وصول نص الاتفاق الذي أقره رئيس الجمهورية مع العاهل السعودي إلى الخارجية حتى الآن! وبالتالي لا أحد يعرف تفاصيله، حتى من تتطلب طبيعة عملهم ذلك، لكن الوزير ردّ أن الاتفاق عبارة عن إحداثيات، وبالتالي لن يكون مفهوماً حتى لو تم نشره"، ليؤكد المصدر أن "بعض السفراء الحاضرين تحدثوا عن شهاداتهم خلال عملهم بمكتب الوزير الأسبق عصمت عبد المجيد، وذكروا خلفيات الوثيقة التي يستند إليها الوزير، والموقف الرسمي حالياً، وأكدوا جميعاً بأن الوثيقة لا قيمة لها قانونياً، وأنها كانت بهدف التسويف والمماطلة، وهو أمر معمول به في الشؤون الدبلوماسية والتفاوض، غير أن الوزير لم يرد على تعليقاتهم".
وبخصوص مسألة طرح الاتفاق للاستفتاء الشعبي، أوضح شكري أن المسألة غير مطروحة للاستفتاء، إلا أن بعض الحضور أبرزوا أن ظروف الاتفاقية تطابق المادة 151 في الدستور المصري، والتي توجب على رئيس الجمهورية طرح المسألة للاستفتاء، ليرد عليهم شكري بأن "المسألة ملتبسة".
وأدى طرح الدبلوماسيين للأدلة التي تؤكد أحقية مصر بالجزيرتين، بحسب المصدر ذاته، "إلى أن أبدى الوزير غضبه، وطلب إنهاء النقاش حول الموضوع قائلاً: "الجزر محل نزاع"، الأمر الذي يؤكد عدم ثقته كوزير للخارجية بصحة الاتفاقية الموقعة.
وأعلن شكري، في نهاية هذا الاجتماع، وكتطبيق عملي لتهديده للدبلوماسيين بعدم مناقشة موضوع الجزيرتين، أنه تم اتخاذ قرار بمعاقبة أحد الدبلوماسيين في إحدى السفارات، وذلك بإعادته إلى مصر لينضم للعمل في ديوان عام الوزارة، وهي عقوبة متعارف عليها للدبلوماسيين المغضوب عليهم في الخارجية، وسبب العقوبة هو أنه كتب على "فيسبوك" رأيه الرافض لإقرار ترسيم الحدود بين مصر والسعودية.
وبشأن استقلالية ومهنية وزارة الخارجية، شدد المصدر نفسه على أن "وزارة الخارجية كانت من ضمن مؤسسات قليلة في البلد يحظى العمل فيها بقدر من الاستقلالية نسبياً، وترك الأمور الفنية للمتخصصين بها، مع هامش تحرك، لكن الوضع تغيّر تدريجياً خلال السنوات الأخيرة، بفعل تدخل رئاسة الجمهورية للتأثير على اختصاصات الوزارة، وعمل إداراتها المختلفة".
وتابعت "الموقف المصري" أن التدخل الحالي بعهد الرئيس السيسي أصبح بمستوى يفوق تجاوزات سابقيه بكثير، "ما يعرّض حقوق مصر وأراضيها للخطر، كما أنه يطرد كفاءات تدرّبت وعملت في هذه المؤسسة لعقود طويلة، في مقابل الاعتماد على من هم أقل خبرة في هذا المجال".