من حيث الإنتاج، فمنذ انتشار الإنترنت كوسيط لتداول السلع الموسيقية بلا مقابل مادي، عزف المنتجون عن المخاطرة بدعم أو إنتاج أي نوع موسيقي جديد، وامتدّ هذا الحذر إلى الساحة التجارية نفسها، حيث أصبح الإنتاج في أضيق الحدود سواءً للألبومات أو الكليبات، بل وداخل العملية الموسيقية نفسها في اللجوء لطرق الإنتاج الإلكترونية التي تعتمد في أغلبها على منتج موسيقي ينفّذ معظم ما يصممّه ويكتبه عن طريق الإنتاج الإلكتروني عوضاً عن الآلات الحية، واعتمد المنتجون على الحفلات الحيّة للمغنّين ذوي الجماهيرية في تعويض وجلب الربح المفقود.
ومنذ عام 2000، بزغت محاولات عديدة على المستوى العربي للاستقلال عن الساحة التجارية، متمثلة في تكوّن فرق مستقلة تقدّم محتوى بديلاً وأنواعاً موسيقية مغايرة أو هجينة. وتميّزت بمحاولاتها البحث عن منصّات وموضوعات بديلة، أو بخلق وسائل جديدة بكلفة قليلة بديلة لعملية الإنتاج عبر التكنولوجيا.
وبالفعل نجحت عدة محاولات في تخطي العقبات الإنتاجية المسيطرة تجارياً، مثل تجارب سعاد ماسي وعلاء وردي وفرقة "الصابون يقتل" وفرقة "وسط البلد" و"مسار إجباري". هؤلاء نجح إصرارهم في الاستمرارية وتحقيق جماهيرية ونجاح مادي، وإن تغيّر المحتوى الفكري والموسيقي لأغلب تلك المشروعات مقترباً من محتوى الموضة المنتشرة الناجحة في السوق التجاري، ما أفقدها شيئاً من خصوصيتها اللازمة لتحصل على مسماها المستقل.
بعد عام 2011، خلقت الانتفاضات وحراك الشارع العربي مساحة أكبر في حرية التجريب والتعبير الموسيقي والاستعداد المتفق عليه ضمنياً لتقبل الجديد أو على الأقل منحه مساحة وحرية الوجود، حتى في حال رفضه أو استهجانه.
ساعدت الأحداث السياسية على ظهور محتوى ملائم ومعبّر عن المرحلة بذكاء تجاري بحت، باتخاذ الأحداث منصة للتعبير مثل فرق "اسكندريلا" و"كايروكي" ورامي عصام وفرق الراب في تونس ومصر، والروك والبوست روك والهارد روك في الأردن. وبدأت ظاهرة مشاركة الفرق البديلة هذه في برامج تلفزيونية ومهرجانات وأحداث موسيقية عالمية، مما ساهم في تحقيق نسبة مشاهدة عالية وانتشار معقول لها. من تلك البرامج "باسم يوسف شو"، "أبلة فاهيتا"، "ميكروفون" و"كوك ستوديو".
وفي حين يجب تقبّل الانفتاح الذي حدث بأوجهه الإيجابية والسلبية، لم يحقّق هذا الحراك الموسيقي الفرق المرجوّ في جودة المنتج الموسيقي، نظراً لكثرة المنتجات وتنافسها، سواءً في المحتوى أو عملية الإنتاج نفسها، رغم قلة تكلفتها، حيث وقعت الفرق في فخ تقليد بعضها البعض موسيقياً وتكرار الموضوعات، حتى أصبح الغناء للمعارضة ضد الحكم كليشيه يمارَس بركاكة.
الآن وقد غيّرت العديد من الفرق مسارها المستقل لتحقيق الكسب المادي، يمكن القول إن واقع الفرق الموسيقية البديلة والتجريبية مُحبِط، إذ تخلّت هذه عن معيار الاستقلال في مضمونها وجودة موسيقاها، واتجهت لاقتحام صناعة المحتوى الموسيقي للإعلانات للتكسّب، بحيث يسهل عليها الإنتاج لنفسها والاعتماد على عائد الحفلات الحيّة التي تقيمها ومنتجات تحمل شعار أو بعض كلمات الأغاني يتم بيعها لتحصيل مكسب مادي.
وبعد فورة الحرية في التعبير التي ظهرت ثم اختفت، برز وجه آخر للإحباط وبدأ صوت الأغاني الثورية يخفت مع تقلص مساحة الحرية في التعبير حتى الانعدام، لا سيما مع أخبار اعتقالات المدونين بسبب ما يكتبونه على مدوناتهم بل وحساباتهم الشخصية على فيسبوك، ما جعل صانعي الأغاني أكثر حرصاً وتكتماً وتجنباً للانتقاد السياسي، وجعل بعضهم يبحث عن بلد آخر لمزاولة نشاطه الموسيقي.