أذكر أنني لمّا كنت طالباً في الإعدادية في عمّان، كنت دائماً أبحث عن وسيلةٍ، لأعزز بها دخلي، لأشبع هوايتي بحضور أكبر عدد من الأفلام السينمائية، أجنبية وعربية. ومنها أنني كنت أستعير الكتب من مكتبة المدرسة مدة أسبوع مجاناً، ثم أعيد إعارتها للطلاب على أساس يومين فقط. وتوسعت أعمالي، علماً أن الخدمة التي كنت أقدمها لم تتعد الذهاب إلى المكتبة، واستلاف قصص كامل الكيلاني، ومحمد عطية الأبراشي، ومحمد فريد أبو حديد وإعادة تسليفها للطلاب مقابل مبلغ بسيط.
واستمر الأمر إلى أن اكتشف والدي ذلك، فعانقني، لأنني شجعت الطلاب على القراءة، وعاقبني بالعصا، لأنني أنفقت الدخل على الأفلام.
وعندما أغلق هذا الباب، بدأت في إصدار جريدة من ثماني صفحات، كنت أكتبها بخط اليد. وأنسخ منها خمسين نسخة ستانسل، حتى اسودّت يداي من الحبر. وصرت ورقياً أو صحفياً.
وللعجب أن الطلاب صاروا ينتظرون تلك الدورية الأسبوعية، ليقرأوا ماذا كتبت عنهم. وبعد ذلك، تفرّعت إلى مدرسة البنات الحكومية القريبة. واكتشفت إحدى المعلمات الأمر، واشتكتني إلى مدير مدرستنا الذي منعني من إصدار الصحيفة كلية.
وتذكّرت شغف الطلاب في الكلية العربية في القدس، والذي كان يحدثني عنه والدي، المرحوم أحمد العناني، وانتظارهم وصول مجلة الرسالة من مصر، ليتابع الطلبة آخر المناظرات والسجالات الأدبية التي كان أبطالها كتّاب بارزون، أمثال طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم.
أصبحت مهنة إصدار الصحف والمجلات في الوطن العربي كبيرة. ونشأت دور كبيرة في الوطن العربي، أمثال دار الصياد في لبنان، ودار المعارف ودار الهلال والأهرام في مصر.
وقادت دول خليجية حملة التوعية العربية، بإصدار مجلات متميزة، مثل العربي والوعي الإسلامي في الكويت، لكن الصحف الخليجية بدأت تنافس "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" في مصر، و"النهار" و"الحياة" في لبنان، مثل المدينة والقبس وغيرها.
أما اليوم، فقد صارت الصحافة الورقية تترنح بسبب الانتشار الواسع للإنترنت والإعلام الإلكتروني. ومن الواضح أن هذا الأمر لم يعد ظاهرة عربية، بل عالمية، فقد أفلست صحف انجليزية عريقة، وبيعت بأسعار بخسة.
وجديد هذه الصفقات مجلة الإيكونومست البريطانية. وسوف يأتي الدور على صحف أميركية وغيرها، اللهم تلك التي تجد وسيلة لها للانتشار الإلكتروني عبر المواقع.
وقد سهلت هذه المهمة بسبب قدرة البرمجيات والخدمات الإلكترونية على تطوير نفسها، وبسبب أن شبكات التواصل الاجتماعي مكّنت الناس من التفاعل مباشرة مع الصحافة، كما تتواصل مع وسائل الإعلام الأخرى، فالبرمجيات تمكّنك، الآن، من أن تحل الأحرف والمربعات على هاتفك المحمول، وأن ترسل رأيك عبر الكمبيوتر المحمول (لاب توب) أو عبر أي جهاز إلكتروني تواصلي آخر.
وبفضل اختراع مايكروسوفت للحوسبة الغمامية (كلاود كومبيوتنج)، صار من السهل وضع معلوماتٍ لا نهائية محفوظةٍ في بنك من المعلومات والأدبيات، وإيصالها إلى الزبائن، عبر أي وسيلة متاحة، حاسوباً كانت أو هاتفاً أو أي شيء آخر.
وكذلك، إتاحة التواصل السريع لكل فرد في الدنيا جعلت الهواة قادرين على أن يكسبوا اهتمام الجمهور، ويحصلوا على مئات وملايين الزيارات، بمجرد أنه صور كلباً يرقص، أو أخذ صورة لانفجار في مكان ما، أو لأنه غنّى أغنية جيدة.
ويلفت النظر أن كثيرين من نجوم السينما والتلفزة والسياسة في العالم باتوا يضيقون ذرعاً بالمصورين الذين يتابعونهم في الليل والنهار، ويغزون خصوصيتهم ليصوروهم وهم غافلون، في مقابل بيع تلك الصور بمقادير مالية مجزية. وقد بدأ نجوم بالضغط لإصدار قانون ضد تصوير أبناء النجوم، وكذلك أنذر الأمير وليام، ولي ولي عهد المملكة المتحدة، هؤلاء المصورين (الباباراتزي) بعدم تصوير ابنه جورج أو ابنته.
اقرأ أيضا: الإعلام المالي العالمي بيد اليابان
وإذا ضاق الخناق تدريجياً على صحف الإثارة، فالأرجح أنها ستنزل تحت الأرض، وتختبىء خلف مواقع إلكترونية لبيع صورها وأخبارها، ما يقلل من الإقبال على الصحافة المطبوعة.
وفي السنتين الأخيرتين، عانت الصحف الأربعة الرئيسية في الأردن من مشكلات مالية صعبة.
وأولها كانت صحيفة الغد التي اضطرت إلى التقشف، فقللت من مكافآت كتاب الأعمدة، وقللت عدد العاملين، ومنعت منح أي اشتراكات مجانية، لكنها ما تزال مالياً تتأرجح عند الحافة. وواجهت "العرب اليوم"، مشكلة مالية قاسية، واضطر صاحبها إلى بيعها، فأعلن الذي اشتراها إفلاسها، وفصل الموظفين، ووصل إلى تسويات مع الدائنين، وبعدما فعل ذلك، عاد إلى إصدار الصحيفة بموازنة معقولة، وبكلفة أقل.
أما صحيفة "الدستور"، فقد أعيد هيكلة رأسمالها، واختصر بعض العاملين فيها، وأعيد النظر في الرواتب والمكافآت، وأقرضها الضمان الاجتماعي، من أجل أن تتمكن من سداد ديونها، والبدء في إعادة بناء نفسها.
وبنت صحيفة "الرأي" مشروع مطبعة ضخمة، فاقت تكاليفها المتوقعة، وكادت الجريدة أن تفلس. وأخيراً، غيّرت إدارتها، وقلّصت ميزانيتها، وبدأت تدريجياً في استعادة أنفاسها.
وما يجري في الأردن سوف يحدث لصحف كثيرة، لولا الدعم الذي تلاقيه من الحكومات، لما استطاعت أن تطفو فوق السطح، وتستمر.
ولكن السياسيين ليسوا مضطرين، مع الوقت، إلى دعم الصحف، إذا بدأت خسارتها تكبر، بل على هذه الصحف أن تعيد خلق نفسها مع التطورات التكنولوجية الحديثة، ولا بد لها من تقديم خدمات معلوماتية، تبقي المشترك على اتصال وتفاعل معها.
ولربما تبدأ الصحف تدريجياً بالاعتماد، في أبواب كثيرة غير إخبارية، على متبرعين من القراء، وعلى تفاعل القراء مع بعضهم.
صحيح أن الورق أصبح أكثر كلفة، ولست ممن يؤمنون أن الورق في طريقه إلى الزوال، على الأقل ليس قبل مائة عام.
والورق كصناعة تجاوز عمرها ألفي سنة، وصناعة الحبر والورق والطباعة استطاعت أن تجدد نفسها وشكلها وآلاتها وخدماتها مع الوقت. والصورة الجميلة المطبوعة أكثر أثراً من الصورة نفسها المبثوثة على أجهزة الحاسوب والهاتف. ولكن، حتى هذا سيكون مؤقتاً.
وما لم تبدأ الصحافة العربية التقليدية تجديد نفسها، فإن الجيل الجديد من الإعلاميين، وحتى غير الإعلاميين الراغبين في النشر، ومن عباقرة الإلكترونيات، سوف يملؤون الأسواق بكل ما تقدمه الصحف بشكل أسرع، وأدق، واكثر ديمقراطيةً وشعبيةً.
اقرأ أيضا: الأردن يخشى تراجع المساعدات الخليجية
وعندما أغلق هذا الباب، بدأت في إصدار جريدة من ثماني صفحات، كنت أكتبها بخط اليد. وأنسخ منها خمسين نسخة ستانسل، حتى اسودّت يداي من الحبر. وصرت ورقياً أو صحفياً.
وللعجب أن الطلاب صاروا ينتظرون تلك الدورية الأسبوعية، ليقرأوا ماذا كتبت عنهم. وبعد ذلك، تفرّعت إلى مدرسة البنات الحكومية القريبة. واكتشفت إحدى المعلمات الأمر، واشتكتني إلى مدير مدرستنا الذي منعني من إصدار الصحيفة كلية.
وتذكّرت شغف الطلاب في الكلية العربية في القدس، والذي كان يحدثني عنه والدي، المرحوم أحمد العناني، وانتظارهم وصول مجلة الرسالة من مصر، ليتابع الطلبة آخر المناظرات والسجالات الأدبية التي كان أبطالها كتّاب بارزون، أمثال طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم.
أصبحت مهنة إصدار الصحف والمجلات في الوطن العربي كبيرة. ونشأت دور كبيرة في الوطن العربي، أمثال دار الصياد في لبنان، ودار المعارف ودار الهلال والأهرام في مصر.
وقادت دول خليجية حملة التوعية العربية، بإصدار مجلات متميزة، مثل العربي والوعي الإسلامي في الكويت، لكن الصحف الخليجية بدأت تنافس "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" في مصر، و"النهار" و"الحياة" في لبنان، مثل المدينة والقبس وغيرها.
أما اليوم، فقد صارت الصحافة الورقية تترنح بسبب الانتشار الواسع للإنترنت والإعلام الإلكتروني. ومن الواضح أن هذا الأمر لم يعد ظاهرة عربية، بل عالمية، فقد أفلست صحف انجليزية عريقة، وبيعت بأسعار بخسة.
وجديد هذه الصفقات مجلة الإيكونومست البريطانية. وسوف يأتي الدور على صحف أميركية وغيرها، اللهم تلك التي تجد وسيلة لها للانتشار الإلكتروني عبر المواقع.
وقد سهلت هذه المهمة بسبب قدرة البرمجيات والخدمات الإلكترونية على تطوير نفسها، وبسبب أن شبكات التواصل الاجتماعي مكّنت الناس من التفاعل مباشرة مع الصحافة، كما تتواصل مع وسائل الإعلام الأخرى، فالبرمجيات تمكّنك، الآن، من أن تحل الأحرف والمربعات على هاتفك المحمول، وأن ترسل رأيك عبر الكمبيوتر المحمول (لاب توب) أو عبر أي جهاز إلكتروني تواصلي آخر.
وبفضل اختراع مايكروسوفت للحوسبة الغمامية (كلاود كومبيوتنج)، صار من السهل وضع معلوماتٍ لا نهائية محفوظةٍ في بنك من المعلومات والأدبيات، وإيصالها إلى الزبائن، عبر أي وسيلة متاحة، حاسوباً كانت أو هاتفاً أو أي شيء آخر.
وكذلك، إتاحة التواصل السريع لكل فرد في الدنيا جعلت الهواة قادرين على أن يكسبوا اهتمام الجمهور، ويحصلوا على مئات وملايين الزيارات، بمجرد أنه صور كلباً يرقص، أو أخذ صورة لانفجار في مكان ما، أو لأنه غنّى أغنية جيدة.
ويلفت النظر أن كثيرين من نجوم السينما والتلفزة والسياسة في العالم باتوا يضيقون ذرعاً بالمصورين الذين يتابعونهم في الليل والنهار، ويغزون خصوصيتهم ليصوروهم وهم غافلون، في مقابل بيع تلك الصور بمقادير مالية مجزية. وقد بدأ نجوم بالضغط لإصدار قانون ضد تصوير أبناء النجوم، وكذلك أنذر الأمير وليام، ولي ولي عهد المملكة المتحدة، هؤلاء المصورين (الباباراتزي) بعدم تصوير ابنه جورج أو ابنته.
اقرأ أيضا: الإعلام المالي العالمي بيد اليابان
وإذا ضاق الخناق تدريجياً على صحف الإثارة، فالأرجح أنها ستنزل تحت الأرض، وتختبىء خلف مواقع إلكترونية لبيع صورها وأخبارها، ما يقلل من الإقبال على الصحافة المطبوعة.
وفي السنتين الأخيرتين، عانت الصحف الأربعة الرئيسية في الأردن من مشكلات مالية صعبة.
أما صحيفة "الدستور"، فقد أعيد هيكلة رأسمالها، واختصر بعض العاملين فيها، وأعيد النظر في الرواتب والمكافآت، وأقرضها الضمان الاجتماعي، من أجل أن تتمكن من سداد ديونها، والبدء في إعادة بناء نفسها.
وبنت صحيفة "الرأي" مشروع مطبعة ضخمة، فاقت تكاليفها المتوقعة، وكادت الجريدة أن تفلس. وأخيراً، غيّرت إدارتها، وقلّصت ميزانيتها، وبدأت تدريجياً في استعادة أنفاسها.
وما يجري في الأردن سوف يحدث لصحف كثيرة، لولا الدعم الذي تلاقيه من الحكومات، لما استطاعت أن تطفو فوق السطح، وتستمر.
ولكن السياسيين ليسوا مضطرين، مع الوقت، إلى دعم الصحف، إذا بدأت خسارتها تكبر، بل على هذه الصحف أن تعيد خلق نفسها مع التطورات التكنولوجية الحديثة، ولا بد لها من تقديم خدمات معلوماتية، تبقي المشترك على اتصال وتفاعل معها.
ولربما تبدأ الصحف تدريجياً بالاعتماد، في أبواب كثيرة غير إخبارية، على متبرعين من القراء، وعلى تفاعل القراء مع بعضهم.
صحيح أن الورق أصبح أكثر كلفة، ولست ممن يؤمنون أن الورق في طريقه إلى الزوال، على الأقل ليس قبل مائة عام.
والورق كصناعة تجاوز عمرها ألفي سنة، وصناعة الحبر والورق والطباعة استطاعت أن تجدد نفسها وشكلها وآلاتها وخدماتها مع الوقت. والصورة الجميلة المطبوعة أكثر أثراً من الصورة نفسها المبثوثة على أجهزة الحاسوب والهاتف. ولكن، حتى هذا سيكون مؤقتاً.
وما لم تبدأ الصحافة العربية التقليدية تجديد نفسها، فإن الجيل الجديد من الإعلاميين، وحتى غير الإعلاميين الراغبين في النشر، ومن عباقرة الإلكترونيات، سوف يملؤون الأسواق بكل ما تقدمه الصحف بشكل أسرع، وأدق، واكثر ديمقراطيةً وشعبيةً.
اقرأ أيضا: الأردن يخشى تراجع المساعدات الخليجية