هذه المرة لم يضطر الأب عبده أبو كسم (مدير المركز الكاثوليكي للإعلام) للتصريح أو التدخّل، فبعض "المؤمنين" المسيحيين قاموا بالواجب: "حفل فرقة مشروع ليلى لن يمرّ في جبيل". لماذا؟ الحقيقة أن الأسباب تختلف بين معترض وآخر، ولكنها تتمحور في أغلبها حول "إهانة الفرقة لرموز الدين المسيحي". ومن هذه التهمة تتفرّع تهم أخرى مثل "الترويج للانحلال الأخلاقي"، و"التشجيع على المثلية الجنسية"، و"الترويج لخطاب سياسي غريب عن جبيل".
ليست هذه المرة الأولى التي تغني فيها الفرقة الموسيقية اللبنانية في مهرجانات بيبلوس الصيفية. فقد وقفت وهي في بداياتها عام 2010 على مسرح المدينة، وسط حضور كبير. كرّست تلك الحفلة، مشروع ليلى كجزء من المشهد الموسيقي اللبناني، رغم امتعاض فنانين وصحافيين ومدوّنين، وجدوا في الفرقة تشويشاً على تقليدية الفنّ اللبناني بتفرعاته الرصينة أو تلك الأقل رصانة.
فما الذي حصل هذا العام؟ لم تأتِ الحملة من فراغ، ولا من خارج السياق الطبيعي للبلاد. منذ وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية عام 2016، يعرف البعض شعوراً بفائض قوة، تعزّزه تصريحات وخطابات وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وقد انضمّ إليه أخيراً مناصرون للقوات اللبنانية بعد قرار وزير العمل كميل أبو سليمان تطبيق قانون العمل على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (قبل إرجاء القرار).
بدا أفراد من الوسط المسيحي كمن خرج من كبوة طويلة، مصرّين على الاستفادة من كل لحظة قوة، ومستعيدين ممارسات عارضوها منذ العام 1990، أو أقلّه ادعوا معارضتها: "يبلطج" هؤلاء مواقع التواصل، ويهددون كل من يخالفهم الرأي، تؤازرهم الأجهزة الأمنية، التي تستدعي كل يوم تقريباً، مغرداً او مدوّناً بسبب ما كتبه على مواقع التواصل الاجتماعي. ويؤمّن لهم بعض الخطاب السياسي المحسوب على زعامات مسيحية، مظلّة يتحركون تحتها بحرية، فيوزّعون شهادات الوطنية على من يريدون وينزعونها عمّن يريدون. يرمون عنصريتهم على السوري والفلسطيني والعاملات الأجنبيات، وعلى كل "آخر"، ويدعون المعترضين إلى "مغادرة لبنان". فاشية ناشئة لكن واعدة.
هذه المرة كان "الآخر" هو مشروع ليلى. استعادت حسابات تحمل أسماء مثل "جنود الرب" (ولله في لبنان حزب واحد ولكن جنود كثر)، إلى جانب حسابات لشخصيات ناشطة في التيار الوطني الحرّ وعلى رأسها ناجي الحايك، ورجال دين مثل الأب كميل مبارك (عميد كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية وعميد معهد الدكتوراه في جامعة الحكمة)، وبعده مطرانية جبيل المارونية، منشورات وتغريدات لأفراد الفرقة، وتحديداً حامد سنو، اعتبروها مسيئة للدين المسيحي. ولا مكان لمن يسيء للدين المسيحي في مدينة جبيل "مدينة الحرف والمحبة والرقي والحضارة" وغيرها من الصفات والإنجازات التاريخية التي يحبّ اللبنانيون استعادتها عادة عند كل موقف أو حدث، تافها كان أو معقّدا. اعتراضات كسولة والحق يقال، ومكررة حدّ الملل، في التاريخ اللبناني الحديث، وفي التعامل الشعبوي مع أي منتج فني أو ثقافي خارج عن مباركة السلطة بمؤسساتها الرسمية والدينية والأمنية.
تستفزّ فرقة مشروع ليلى كثيرين. منهم من ينتقدها فنياً، ومنهم من لا يفهم سبب نجاحها، ومنهم من تهتز منظومته الأخلاقية من تصريحات مغني الفرقة حامد سنّو، المجاهر بمثليّته الجنسية، ومنهم من يرى في حفلات الفرقة التي تزدحم بالجمهور في مختلف أنحاء العالم العربي، خطراً على الأخلاق العامة. "غضب الأهالي" هذه المرة، جاء مزيجاً من كل هذه الانتقادات. كل ما تمثّله الفرقة يشكّل خطراً على النقاء الوطني ــ الأخلاقي الناصع للمعترضين: لا نجومية الفرقة تشبه النجومية اللبنانية التقليدية، ولا الأغاني الموجّهة للوطن تشبه الصورة التي يريدونها عن لبنان، ولا الحريات التي تدعو لها الفرقة في أغانيها أو تصريحاتها تشبه "الحريات المسؤولة" التي يمنّون بها على اللبنانيين. وهنا تحديداً جوهر الاعتراض. تشبه الفرقة فرقاً أخرى ظهرت في العالم العربي بعد انطلاق الربيع العربي عام 2011. وهذا التماهي مع تجارب عربية شابة ناجحة لوحده كفيل بإخافة بعض الذين حشروا أنفسهم لسنوات في خانة الأقليات المهددة.
واللافت كان إعادة هؤلاء لنشر أخبار عن منع حفلات فنية للفرقة في دول عربية تحكمها أنظمة ملكية أو شمولية، تفتقد إلى الحد الأدنى من حرية التعبير عن الرأي، مثل مصر، التي اعتقل فيها النظام مجموعة من الناشطين من حفلة لـ"مشروع ليلى" عام 2017، بسبب رفعهم علم قوس قزح. أساساً ينظر لبنان الرسمي والشعبي إلى تجربة عبد الفتاح السيسي الدموية بعين الإعجاب. قال ذلك رئيس الحكومة سعد الحريري أكثر من مرة، وكرّرها خلفه وزراء ونواب وقواعد شعبية.
قد يبدو الوضع العام في لبنان معقداً، لكنه في الحقيقة واضح وبسيط. ما نراه اليوم مع حفل "مشروع ليلى" تكريس إضافي لتراجع الحريات العامة في البلاد. هو الإعلان الشعبي عن تماهيه مع الخطة الرسمية لخنق الحريات "غير المسؤولة". فبينما ترفع الدولة سقف خطابها الفاشي، يلعب المواطنون على مواقع التواصل، دور المخبرين، ضدّ كل خارج عن "منظومة الأخلاق الوطنية"، التي قد تهتزّ لكن الغيارى على الدين والوطن لن يسمحوا لها بالسقوط. ألم تبدأ حملة أخرى قبل أسبوعين ضد مارسيل خليفة لأنه رفض عزف النشيد الوطني اللبناني في بداية حفله في بعلبك؟ "مارسيل خليفة الشيوعي الملحد" في مواجهة "اللبنانيين الوطنيين المؤمنين". حملة آزرتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل ووجوه فنية "ميديوكر" تحاول ان تجعل من مواقفها السياسية بوابة لنجوميتها.
لم يصدر بعد أي موقف عن لجنة مهرجانات بيبلوس حول حفل مشروع ليلى في 9 أغسطس/آب المقبل، لكن حتى الساعة يبدو أن الاعتراض، مجرد بعبعة افتراضية، علّه يخمد، وتقف فرقة مشروع ليلى على مسرح بيبلوس، لتغني "خونوك القطيع كل ما طالبت بتغيير الوطن، يأسوك حتى تبيع حرياتك لما يضيع الوطن".
ليست هذه المرة الأولى التي تغني فيها الفرقة الموسيقية اللبنانية في مهرجانات بيبلوس الصيفية. فقد وقفت وهي في بداياتها عام 2010 على مسرح المدينة، وسط حضور كبير. كرّست تلك الحفلة، مشروع ليلى كجزء من المشهد الموسيقي اللبناني، رغم امتعاض فنانين وصحافيين ومدوّنين، وجدوا في الفرقة تشويشاً على تقليدية الفنّ اللبناني بتفرعاته الرصينة أو تلك الأقل رصانة.
فما الذي حصل هذا العام؟ لم تأتِ الحملة من فراغ، ولا من خارج السياق الطبيعي للبلاد. منذ وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية عام 2016، يعرف البعض شعوراً بفائض قوة، تعزّزه تصريحات وخطابات وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وقد انضمّ إليه أخيراً مناصرون للقوات اللبنانية بعد قرار وزير العمل كميل أبو سليمان تطبيق قانون العمل على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (قبل إرجاء القرار).
بدا أفراد من الوسط المسيحي كمن خرج من كبوة طويلة، مصرّين على الاستفادة من كل لحظة قوة، ومستعيدين ممارسات عارضوها منذ العام 1990، أو أقلّه ادعوا معارضتها: "يبلطج" هؤلاء مواقع التواصل، ويهددون كل من يخالفهم الرأي، تؤازرهم الأجهزة الأمنية، التي تستدعي كل يوم تقريباً، مغرداً او مدوّناً بسبب ما كتبه على مواقع التواصل الاجتماعي. ويؤمّن لهم بعض الخطاب السياسي المحسوب على زعامات مسيحية، مظلّة يتحركون تحتها بحرية، فيوزّعون شهادات الوطنية على من يريدون وينزعونها عمّن يريدون. يرمون عنصريتهم على السوري والفلسطيني والعاملات الأجنبيات، وعلى كل "آخر"، ويدعون المعترضين إلى "مغادرة لبنان". فاشية ناشئة لكن واعدة.
هذه المرة كان "الآخر" هو مشروع ليلى. استعادت حسابات تحمل أسماء مثل "جنود الرب" (ولله في لبنان حزب واحد ولكن جنود كثر)، إلى جانب حسابات لشخصيات ناشطة في التيار الوطني الحرّ وعلى رأسها ناجي الحايك، ورجال دين مثل الأب كميل مبارك (عميد كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية وعميد معهد الدكتوراه في جامعة الحكمة)، وبعده مطرانية جبيل المارونية، منشورات وتغريدات لأفراد الفرقة، وتحديداً حامد سنو، اعتبروها مسيئة للدين المسيحي. ولا مكان لمن يسيء للدين المسيحي في مدينة جبيل "مدينة الحرف والمحبة والرقي والحضارة" وغيرها من الصفات والإنجازات التاريخية التي يحبّ اللبنانيون استعادتها عادة عند كل موقف أو حدث، تافها كان أو معقّدا. اعتراضات كسولة والحق يقال، ومكررة حدّ الملل، في التاريخ اللبناني الحديث، وفي التعامل الشعبوي مع أي منتج فني أو ثقافي خارج عن مباركة السلطة بمؤسساتها الرسمية والدينية والأمنية.
Twitter Post
|
Twitter Post
|
Facebook Post |
تستفزّ فرقة مشروع ليلى كثيرين. منهم من ينتقدها فنياً، ومنهم من لا يفهم سبب نجاحها، ومنهم من تهتز منظومته الأخلاقية من تصريحات مغني الفرقة حامد سنّو، المجاهر بمثليّته الجنسية، ومنهم من يرى في حفلات الفرقة التي تزدحم بالجمهور في مختلف أنحاء العالم العربي، خطراً على الأخلاق العامة. "غضب الأهالي" هذه المرة، جاء مزيجاً من كل هذه الانتقادات. كل ما تمثّله الفرقة يشكّل خطراً على النقاء الوطني ــ الأخلاقي الناصع للمعترضين: لا نجومية الفرقة تشبه النجومية اللبنانية التقليدية، ولا الأغاني الموجّهة للوطن تشبه الصورة التي يريدونها عن لبنان، ولا الحريات التي تدعو لها الفرقة في أغانيها أو تصريحاتها تشبه "الحريات المسؤولة" التي يمنّون بها على اللبنانيين. وهنا تحديداً جوهر الاعتراض. تشبه الفرقة فرقاً أخرى ظهرت في العالم العربي بعد انطلاق الربيع العربي عام 2011. وهذا التماهي مع تجارب عربية شابة ناجحة لوحده كفيل بإخافة بعض الذين حشروا أنفسهم لسنوات في خانة الأقليات المهددة.
واللافت كان إعادة هؤلاء لنشر أخبار عن منع حفلات فنية للفرقة في دول عربية تحكمها أنظمة ملكية أو شمولية، تفتقد إلى الحد الأدنى من حرية التعبير عن الرأي، مثل مصر، التي اعتقل فيها النظام مجموعة من الناشطين من حفلة لـ"مشروع ليلى" عام 2017، بسبب رفعهم علم قوس قزح. أساساً ينظر لبنان الرسمي والشعبي إلى تجربة عبد الفتاح السيسي الدموية بعين الإعجاب. قال ذلك رئيس الحكومة سعد الحريري أكثر من مرة، وكرّرها خلفه وزراء ونواب وقواعد شعبية.
قد يبدو الوضع العام في لبنان معقداً، لكنه في الحقيقة واضح وبسيط. ما نراه اليوم مع حفل "مشروع ليلى" تكريس إضافي لتراجع الحريات العامة في البلاد. هو الإعلان الشعبي عن تماهيه مع الخطة الرسمية لخنق الحريات "غير المسؤولة". فبينما ترفع الدولة سقف خطابها الفاشي، يلعب المواطنون على مواقع التواصل، دور المخبرين، ضدّ كل خارج عن "منظومة الأخلاق الوطنية"، التي قد تهتزّ لكن الغيارى على الدين والوطن لن يسمحوا لها بالسقوط. ألم تبدأ حملة أخرى قبل أسبوعين ضد مارسيل خليفة لأنه رفض عزف النشيد الوطني اللبناني في بداية حفله في بعلبك؟ "مارسيل خليفة الشيوعي الملحد" في مواجهة "اللبنانيين الوطنيين المؤمنين". حملة آزرتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل ووجوه فنية "ميديوكر" تحاول ان تجعل من مواقفها السياسية بوابة لنجوميتها.
لم يصدر بعد أي موقف عن لجنة مهرجانات بيبلوس حول حفل مشروع ليلى في 9 أغسطس/آب المقبل، لكن حتى الساعة يبدو أن الاعتراض، مجرد بعبعة افتراضية، علّه يخمد، وتقف فرقة مشروع ليلى على مسرح بيبلوس، لتغني "خونوك القطيع كل ما طالبت بتغيير الوطن، يأسوك حتى تبيع حرياتك لما يضيع الوطن".
Facebook Post |