ولا يسمح الوضع الداخلي في الإقليم الكردي، إضافة إلى الظروف الدولية والإقليمية، في ولادة هذه الدولة القومية، التي ستكون في حال إبصارها النور، مثلث فصل قومي بين العرب والأتراك والإيرانيين، بحكم موقعها الجغرافي المعقد، وما تحويه أراضيها من مخزون نفطي هائل.
لكن هناك ما يراهن عليه القادة الأكراد اليوم، وهو استغلال ما يعتبرونه "الفرصة الذهبية" أو الفوضى التي تضرب المنطقة لانتزاع دولة قومية للأكراد بالعراق قوامها نحو 7 ملايين نسمة، ومساحتها 40 ألف كيلومتر مربع، دون الخوف من إجهاض المشروع عسكرياً، بسبب التواجد العسكري الأميركي البريطاني الألماني في الإقليم عبر أربع قواعد عسكرية، فيما تشارك دول أخرى قوات البيشمركة في قواعد أخرى.
اقرأ أيضاً: موسم الدعوات الانفصالية في العراق... مخاوف من التقسيم الديمغرافي
ومن المقرر إجراء استفتاء شعبي عام قبل شهر يوليو/تموز المقبل لمواطني الإقليم الأكراد عبر ورقة تضم سؤالاً واحداً وهو: (هل تؤيد الاستقلال عن العراق)، وأسفل السؤال عبارة نعم وأخرى كلا.
وبحسب البيان الصادر عن رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، فإنّ الاستفتاء سيكون شفافاً، وجرى تقديم طلب للأمم المتحدة للإشراف عليه. ويركز الإعلام القومي الكردي المملوك لحكومة كردستان أو الخاص، في حملات واسعة، على شرح فوائد الانفصال وتأسيس الدولة الكردية. ويتفاعل الشارع مع هذه الحملات بشكل واسع، وينقسم حول المشروع بين رافض ومؤيد. والمؤيدون هم الأكثرية حالياً.
"الجمهورية الأولى"
تعود أولى محاولات تأسيس دولة قومية للأكراد إلى الثاني والعشرين من يناير/ كانون الثاني في العام 1946، حين تم الإعلان عن جمهورية كردستان، أو ما عُرف حينها بـجمهورية "مهاباد" الكردية. أسّسها عدد من السياسيين الأكراد الإيرانيين والعراقيين بقيادة الشيخ قاضي محمد.
وأعلنوا عن جيش الدولة الجديدة بغالبية كردية عراقية في حينه، بقيادة الملا مصطفى البارزاني، والد الرئيس الحالي لإقليم كردستان، مسعود. وكان تعداد الجيش يبلغ بضعة آلاف فقط، حظي خلال تلك الفترة بدعم كبير من قبل الاتحاد السوفييتي من ناحية تسليح هذا الجيش، بسبب عداء الاتحاد السوفييتي في تلك الحقبة لإيران، خصوصاً وأنّ الجمهورية الكردية المعلنة تتربع على مساحات واسعة في العراق وإيران وسورية.
دامت الجمهورية المعلنة لأحد عشر شهراً فقط وحققت نجاحاً داخلياً. غير أن نظام الشاه الإيراني، وبدعم بريطاني وأميركي، تمكن خلال حملة عسكرية من دخول مدينة مهاباد، عاصمة الجمهورية الكردية، وإسقاط الدولة الوليدة، ثم اعتقل رئيسها قاضي محمد وأعدمه في ساحة عامة وسط مهاباد. فيما فرّت قيادات كردية الى داخل الأراضي العراقية، حيث لم تتمكن القوات الإيرانية من الدخول إلى هناك، ومنهم الملا مصطفى مع مجموعة من مقاتليه، والذين أسسوا فيما بعد الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يرأسه حالياً نجله مسعود.
وظلت القيادات الكردية تردد عبارة مظلومية اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت المنطقة، ومزقت المكون الكردي بين أربع دول إلى أجزاء صغيرة. وبرز منذ تلك الحقبة تيار قومي كردي يدعو إلى دولة قومية أسوة بإيران وتركيا وكل من العراق وسورية العربيتين، إلا أن كل ذلك كان يقابل برفض دولي، غربي وإقليمي.
انقسام داخلي سياسي
يبدو الإقليم منقسماً على نفسه حول مشروع الانفصال، بحيث أعلن نحو 40 في المائة من أعضاء البرلمان من أصل 111 نائباً رفضهم للفكرة، وهم من أعضاء حزب "الاتحاد الوطني" بزعامة جلال الطالباني، وحركة "التغيير" بقيادة نوشيروان مصطفى، والجماعة الإسلامية بقيادة ملا علي بابير. ويمثل الأخير وحركته الجناح السياسي الكردي لجماعة "الإخوان المسلمين" بكردستان العراق. ومن المرجح أن يؤدي رفضهم الى انشقاق وشيك في صفوف "الإخوان المسلمين" الأكراد، في ظل إعلان نظرائهم في أربيل ودهوك تأييدهم الانفصال.
ويعود سبب رفض هذا المعسكر إلى مخاوف معلنة من قيادات داخله من الوقوع في حكم ديكتاتوري، أو حكم العائلة البارزانية للدولة الجديدة، خصوصاً وأن مسعود البارزاني بات يملك السيطرة على غالبية وحدات وفصائل البيشمركة "الجيش الكردي في حال إعلان الدولة". ويعتبر البارزاني الأب الروحي للبيشمركة، بسبب ما قدّمه لوحدات تلك القوات من دعم ورعاية كبيرين طيلة السنوات الماضية، بحسب ما يؤكد عضو حزب "الاتحاد الوطني" منيف عمران، لـ"العربي الجديد".
ويشير عمران إلى أن "سبب رفضنا الحالي هو خوفنا من أن يسعى البارزاني لدولة يحكمها هو وعائلته، لا إلى دولة قومية كردية". ويشبه طرح عمران وحزبه إلى حدّ كبير الموقف الإيراني من القضية، بحسب ما يقول المحلل السياسي أحمد ممه سعيد، مضيفاً أن المعسكر الرافض لمشروع الاتفصال يتبنى الموقف الإيراني، كونه يُموّل من قبل إيران، ويستخدم حجة المخاوف من حكم ديكتاتوري كغطاء للتمويه على تبنيه للموقف الإيراني؛ وهو ما ينفيه بشدّة المعسكر الرافض.
انقسام في الشارع
وينتقل الانقسام حول المشروع إلى الشارع الكردي. ويتركّز الرافضون خصوصاً في السليمانية وأجزاء من دهوك. ويتخوّف هؤلاء من عودة المعارك والحرب الأهلية، التي خلّفت مآسي كبيرة بينها ما حصل في العام 1992، عندما اندلعت الحرب بين حزبي "الاتحاد" و"الديمقراطي"، وأسفرت عن مقتل وجرح وفقدان عشرات الآلاف. وانتهت المعارك بعد وساطة أميركية برعاية الأمم المتحدة، تم خلالها تقاسم النفوذ بين الطرفين. كما يتخوّف هذا الفريق من ردود أفعال دول الجوار إيران وتركيا من هذا الانفصال.
في المقابل، يرى المؤيدون للدولة الكردية، وهم الأكثرية بالإقليم، أن الموضوع يستحق تضحيات، ويجب استغلال فرصة الظروف الإقيلمية الحالية ووجود قواعد عسكرية أميركية وبريطانية في الإقليم تحميهم من أي اعتداء إيراني، إذا ما تم إعلان الدولة. غير أنهم يطالبون بالإصلاح قبل الإقدام على الخطوة، ويرون أن البارزاني بدأ مبكراً بالإعلان عن المشروع ويعتبرون أن ذلك خطأ.
ويقول عضو برلمان كردستان شوان قلادزي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "خطوة الاستفتاء يجب أن تسبقها إصلاحات كبيرة، ولا نريد أن نضّيع على أنفسنا فرصة تأسيس الدولة، لذا من الضروري إعلان الإصلاح في جميع المجالات. ونريد خطوات عظيمة، لا نريد أن نضيع هذه الفرصة من أيدينا".
وهو ما دفع بمستشار الأمن الوطني مسرور البارزاني إلى الإعلان عن أن الاستفتاء خطوة أولية ولن تعلن الدولة بعده مباشرة كما يتوقع البعض، وذلك خلال مقابلة تلفزيونية معه الأسبوع الماضي أشار صراحة إلى أن بغداد إن لم تقبل بطرف كردي شريك، وليس تابعاً، فالانفصال أفضل.
وبحسب مسح شارك به عدد من مراسلي "العربي الجديد"، يمكن تقسيم الشارع الكردي إلى قسم مؤيد، ويشكلون نحو 60 في المائة من سكان الإقليم، وغالبيتهم في أربيل ودهوك، وقسم رافض ويشكلون نحو 30 في المائة ويتركزون في السليمانية وغرب دهوك، ونحو 10 في المائة لم يحسموا موقفهم بعد، وهم على الأغلب من المسيحيين الأكراد والصائبة وأقليات أخرى.
ويعتنق الأكراد ديانات مختلفة أبرزها الإسلامية والمسيحية والايزيدية والصابئية والزرادشتية، وجميعهم من الناطقين باللغة الكردية، لكن ضمن لهجتين رئيستين هما السورانية لأكراد السليمانية والكرمنجية لأكراد أربيل ودهوك. وتتواجد لهجات أخرى مثل الهورمانية والفيلية للأكراد القاطنين على حدود إيران، وتختلف ثقافات وعادات أصحاب اللهجات، لكن يصعب التمييز بينها.
انشقاق الأحزاب
يُنذر الانقسام الحاصل حول المشروع بانشقاقات كبيرة في ثلاثة أحزاب على الأقل هي "الاتحاد الوطني الكردستاني" وحركة "التغيير" و"الاتحاد الإسلامي"؛ إذ انشق حزب "الاتحاد الوطني" بزعامة الطالباني إلى جناحين: الأول يؤيد الاستقلال ويقوده نائب الطالباني كوسرت رسول، وهو مدعوم من القادة العسكريين في بيشمركة السليمانية. والثاني تقوده زوجة الطالباني، ويرفض الاستقلال.
أما حركة "التغيير" فأخذت هي الأخرى تشهد انشقاقاً لأعضاء منها، آخرهم كان أحد قادتها محمود حاجي، الذي قرّر الانضمام إلى مشروع الاستقلال، وترك حزبه. كما أثر المشروع بشكل أكثر عمقاً على حزب الاتحاد الاسلامي "الإخوان المسلمين"، الذين باتوا موزّعين بمواقفهم على كتلتين: كتلة السليمانية وكتلة أربيل ودهوك؛ الأولى ترفض الانفصال والثانية تؤيده. ودفع هذا الانقسام بقيادي بارز ووزير سابق بالحكومة العراقية هو ديندار دوسكي الى الاستقالة من الحزب.
مع العلم أن البارزاني تمكن من خلال المشروع تفتيت جبهة خصومه، بعدما كانوا موحّدين ضدّ بقائه رئيساً للإقليم فترة رئاسية أخرى، وهذه إحدى الفوائد التي جناها البارزاني من مشروع الانفصال.
اقرأ أيضاً: خلافات البيت الكردي العراقي تهدّد بانفصال السليمانية
عوامل مالية واقتصادية
إضافة إلى التداعيات السياسية لمشروع الانفصال، هناك عوامل مالية واقتصادية تؤثر بشكل مباشر عليه؛ إذ يوجد ارتفاع مقلق في معدلات الفقر والبطالة. وتعجز حكومة الإقليم عن دفع مرتبات عناصر الأمن وموظفيها منذ شهرين. فضلاً عن الديون التي تثقل كاهل الإقليم وتترتب عليه لشركات نفط وبنوك عالمية مختلفة، إضافة الى متطلبات يراها مراقبون واجبة قبل إعلان الدولة وتكلّف نحو 30 مليار دولار، لتهيئة المؤسسات السيادية والبنى التحتية للدولة.
وبحسب الخبير الاقتصادي الكردي ناجي إسلام، فإن "وضع الإقليم المالي غير مهيئ للانفصال. هناك نحو مليار دولار ديون مستحقة لشركات النفط والبنوك، وهناك أكثر من نصف مليون موظف يحتاجون مرتبات، ولم تدفع لهم منذ شهرين وهناك متطلبات يشترط توفرها كي تكتسب كردستان صفة الدولة الطبيعية وهي غير متوفرة حالياً". ويبين في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الجميع يتمنى ذلك، لكن على الأرض المعوقات كبيرة".
عائق أمني
من جهة ثانية، يأتي الملف الأمني والتهديد الذي يشكّله تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وحزب "العمال الكردستاني" المناهض لتركيا وحكومة إقليم كردستان بنفس الوقت كعائق ثالث أمام انفصال الإقليم.
خلاصة الموقف الداخلي للانفصال، فإن الأكراد أنفسهم لم يحسموا موقفهم، بحيث طغت لغة التخوين وعدم الثقة بالشريك الآخر والتشكيك بقدرة الإقليم على الانفصال. ولن يكون لنتائج الاستفتاء أي أثر فعلي لمشروع الانفصال، ما لم تقبل به الكتل السياسية، خصوصاً حزب "الاتحاد" بزعامة الطالباني، الذي يملك نفوذاً عسكرياً في السليمانية ومناطق أخرى بالإقليم. من جهة ثانية، فإنه في حال أيد الشعب الانفصال خلال الاستفتاء، يتطلب الأمر إقرار ثلثي أعضاء البرلمان له، وهو عدد غير متوفر حالياً.
من جهته، يرى الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عبد الوهاب القصاب لـ"العربي الجديد"، أنه "يشعر بأن عملية إقامة كيان دولي جديد في المنطقة أمامه العديد من العقبات السياسية والاقتصادية والأمنية".
ويضيف القصاب "من ناحية جغرافية، إذا بنينا دولة تقع بين تركيا وإيران ودولة العراق العربي وسورية، سيكون لها تداعيات، وسوف تشكل تهديداً لكل هذه الدول المجاورة، عبر تشجيع الأكراد الآخرين على الانفصال". ويتابع "داخل العراق، لا يوجد إجماع كردي على فلسفة ونظام الحكم حتى الآن؛ فالسورانيين (السليمانية) يفكرون بشكل مغاير تماماً للطريقة التي يفكر فيها الحزب "الديمقراطي الكردستاني"، وهم الآن غير متفقين على كيفية إدارة الإقليم، فكيف بإدارة دولة؟ فضلاً عن مشاكل أخرى لا يمكن إنكارها أو تجاوزها داخلياً وخارجياً".
ويتابع القصاب أن "العراق العربي سيعطش، لأن تركيا لن تكون ملاصقة له، كي يدخل دجلة الى العراق مباشرة، وستكون هناك دولة جديدة وحصص مائية لها. إضافة الى أن 40 في المائة من نفط العراق في كركوك وكردستان سيكون من حصة الدولة الجديدة. وهذه المدينة (كركوك) خليط كردي، عربي وتركماني. والغالبية للعرب والتركمان فيها، وهنا الخطورة في إثارة المشروع أو محاولة تطبيقه كونه غير قابل للتنفيذ على هذه المدينة".
ويلفت الى أنه "حتى الآن، لم يحصل الأكراد على ضوء أخضر (دولي)"، لتنفيذ مشروعهم. ويبين أنه لا يمكن تصور عزل العرب عن الأتراك بدولة بقومية أخرى. ويتابع "وفي واقع الحال، ليس هناك تهديد تاريخي بين الأتراك والعرب. وتركيا تحولت الى عنصر ضامن لاستقرار العراق على عكس إيران طبعاً".
ظروف دولية غير مؤاتية
لم تعلن أي دولة حتى الآن عن دعمها لانفصال كردستان، وتأسيس الدولة باستثناء حكومة الاحتلال الإسرائيلي. في المقابل، بدت المواقف الرافضة واضحة وعلنية. وفي هذا الإطار، رفض الاتحاد الأوروبي التعامل مع كردستان بشكل مباشر. واشترط أن يكون ذلك من خلال نافذة الحكومة المركزية ببغداد، وهو ما فسره مراقبون على أنها رسالة مباشرة تؤكد رفض الاتحاد انفصال الأكراد الآن عن العراق. بينما جاء موقف واشنطن رمادياً من خلال تعاملها المباشر مع حكومة الإقليم عسكرياً ومالياً وحتى سياسياً.
وعبر عن موقف إيران، المستشار السياسي للمرشد الإيراني علي خامنئي، علي أكبر ولايتي، بقوله إن إيران تقف ضدّ تأسيس دولة كردستان، وربط بين مشروع الانفصال الكردي وبين طموحات تقودها إسرائيل، معتبراً أن ذلك "غير ممكن" على حد قوله.
وتتحدث مصادر عن سعي إيراني لدعم طموح قيادات حزب "الاتحاد" الى إعلان السليمانية إقليماً ثانياً منفصلاً عن أربيل ودهوك بقيادة حزب الطالباني، وضمن العراق الفيدرالي، كخطوة مضادة لمشروع الانفصال الذي تطرحه أربيل.
بدوره، قال نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش تعليقاً على دعوة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لإجراء استفتاء لتقرير المصير، إن "الحراك السياسي الكردي ليس مقتصراً على العراق وتركيا فقط، بل هو في حالة صراع على المناطق التي يقطنها الأكراد في العراق وتركيا وإيران وسورية". فيما رأى المتحدث باسم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، عمر جيلك، أن الحدود المصطنعة التي وضعتها اتفاقية "سايكس بيكو" لم تجلب الهدوء والاستقرار للمنطقة، ولكن تغيير هذه الحدود سيؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار. وفي بغداد، المعنية مباشرة بالمشروع، تلتزم الحكومة الصمت حيال دعوات الانفصال باستثناء ما يصدر عن قيادات سياسية تعتبر أن المشروع ميت وغير قابل للتحقيق.
في ظل هذه المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية، تبدو عملية الاستفتاء على انفصال كردستان وإعلانه دولة مستقلة، مشروعاً غير قابل للتحقق في الوقت الحالي.
اقرأ أيضاً: عودة شبح تقسيم العراق تحت شعار "الأقاليم"