مشاهدات بيروتية: عن عاصمة تختزل الفساد

بيروت
76175B33-4511-4E32-B2BD-6F3F39C4605C
داليا قانصو
صحافية لبنانية، من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".
11 نوفمبر 2019
18A6710C-FC9E-4D1B-A15B-A01A4611C9F9
+ الخط -


لم تصل قرقعة الطناجر، بعد، إلى مطار رفيق الحريري الدولي، جنوب العاصمة اللبنانية. لا يزال قسم من المتظاهرين، يحلم بتذكرة ذهاب تُخرجهم من "بلاد الأرز". وفيما تدخل انتفاضة لبنان مرحلتها الثانية، مستهدفةً المرافق العامة والحيوية والمالية في الدولة، بعد إغلاق الطرقات، يبدو هذا المرفق (المطار)، وآلية إدارته، محيدين من الغضب الشعبي، وشعاراته المطالبة بمحاربة الفساد. يُحكى أن شركة أوروبية أرادت الحصول على تلزيم في المطار، اضطرت إلى إرسال موفد إلى مرجعية سياسية في الشمال، ليتواصل لها مع إحدى القوى المؤثرة والمهيمنة في السلطة، لأخذ مباركتها إذا ما كانت تستطيع العمل في أمان بالمطار. لكن سياسة العمل بالتراضي، تبقى أقل "الشذوذ" الممكن في دولة المحسوبيات، فالمطار المدار منذ وقت طويل من قبل أحد وجوه "التكنوقراط الجدد" الذين أفرزتهم مرحلة ما بعد الطائف، يصعب القول إنه محمي بهالة من الحيادية والاستقامة، فضلاً عن اختزاله هو أيضاً، لصراعات القوى المتضاربة في السلطة. غير ذلك، تكفي الرائحة الكريهة التي ترافقك للوصول إليه من مدخله الجنوبي، والتي تفوح منذ ما قبل أزمة النفايات، لتثير يومياً نقمة اللبنانيين.

بدوره، ينأى شارع الحمرا، في العاصمة، بنفسه عن الثورة. باستثناء شعار "يسقط حكم المصرف"، والوقفة شبه اليومية أمام مصرف لبنان، الذي كانت سياسة حاكمه رياض سلامة محط علامات استفهام كثيرة أخيراً بعد تراجع العملة الوطنية أمام الدولار في سوق الصرف غير الرسمي، يبدو الشارع التجاري، الذي لطالما ارتبط اسمه، في أذهان الكثيرين، بمرحلة فورة اليسار اللبناني وانتعاش الثقافة و"النضال الوطني"، والقضية الفلسطينية، يعيش أزمته الاقتصادية بسلام.


على الرغم من ذلك، ليس مصرف لبنان وحده المتهم الوحيد في ما آلت إليه أوضاع اللبنانيين، في هذا الشارع الطويل، الساكن قلب "بيروت الغربية"، كما عُرفت في زمن الحرب. فمؤامرة المصارف اللبنانية، وهي إحدى أهم اللوبيات الضاغطة على العمل الحكومي، والتي عرقلت طويلاً ما يسمى بـ"سلسلة الرتب والرواتب" للموظفين في القطاع العام، وهي زيادة أقرت أخيراً على مرتباتهم المتواضعة، كانت تسير منذ زمن بالتوازي مع مؤامرات كثيرة ساقتها لوبيات أخرى، استدرجت أخيراً الغضب الشعبي.

في قلب الشارع، الملتصق بذاكرة مُقاومة، وفي نزلة "مقهى الويمبي" الشهير، حيث نفذت إحدى أشهر العمليات الفدائية ضد الاحتلال في زمن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، يقبع صرح آخر له رمزية خاصة، لدى الأغنياء والفقراء على حدّ سواء. فالجامعة الأميركية في بيروت، ومستشفاها العملاق الذي ما فتئ يتمدد بعدما ابتلع كل المباني المجاورة، شارك طلابها في الانتفاضة اللبنانية، كقوة ضاغطة من الجيل الجديد، لكن بعيداً عنها. على الرغم من ذلك، يبقى المستشفى والصرح التعليمي، مرادفين في الوعي الاجتماعي، للمتناقضات الطبقية التي تحكم منذ زمن نمط حياة اللبنانيين. ناهيك عن أن مصطلحات مثل الطبابة المجانية، وضمان الشيخوخة، ورفض الأقساط التعليمية الخيالية، تقع في صلب المطالب الحديثة التي لم تألفها احتجاجاتٌ لبنانية سابقة. أما مستشفى الجامعة، فقد يكون سبّاقاً في استجلاب النقمة "الصحية"، مختزلاً معه واقعاً أليماً ويوميات مريرة للبناني "العادي"، تنسحب على كل المرافق الطبية الخاصة. تحوّل المستشفى أخيراً، أو هكذا يبدو لمرتادي الشارع، بعدما ارتفعت أسعار معايناته الطبية وخدماته إلى مستوى جنوني، تفوق قدرة الأكثرية المحلية، إلى مرفق طبي سياحي، وبات مقصداً لأثرياء الدول العربية، خصوصاً العراقيين، الذين أنعشوا كذلك قطاع الفنادق الميّت في "الحمرا". الموت على أبواب المستشفيات، لم يحفز بعد جيل المتظاهرين.

لا يبعد شارع "الحمرا" عن حيّ آخر في غرب بيروت، هو شارع "فردان"، الذي يعيش اليوم مرحلة ضبابية بين سمعة التصقت به لسنوات طوال، بأنه مسكن الأغنياء من أهل بيروت المسلمين، وتحوله إلى شارع عادي. فالـ"snobbery" لمن يريد اختبارها في بيروت، أو التظاهر ضدها – وهي كلمة قد تعني حالة الأشخاص الذين يعتبرون أن قيمتهم تكمن في حجم حساباتهم المصرفية، ويديرون يومياتهم من هذا المنطلق - تحولت إلى "زيتونة باي"، أو خليج الزيتونة، والعنوان الأوقح للسطو على واجهات بيروت البحرية، واستكمالاً لخرائط تمدد شركة "سوليدير" العقارية.

احتلال وسط بيروت من قبل المتظاهرين، يمثل بحدّ ذاته اختصاراً لأزمة بلد يتواصل بناؤه على نمط هذه الشركة، العلامة التجارية الدامغة لمرحلة الحريرية السياسية. أما شارع "فردان"، فلا يزال ساكناً في زمن الثورة. في قلبه، افتتح حديثاً فرع من مجمع تجاري ذائع الصيت، وأصبحت سمته الطاغية، مع شوارع بيروتية أخرى، ملصقات محلات فارغة، تعرض "للبيع أو للإيجار". في بيروت، بشرقها وغربها، تسحب المجمعات العملاقة لقمة العيش من ذوي التجارات الصغيرة. ومن سمة بيروت كذلك، انتعاش شوارع وبؤر اقتصادية، على حساب أخرى. أما ظاهرة المحلات الفارغة، فإلى تكاثر سريع.

يضم شارع "فردان" مقر "مجلس الخدمة المدني"، الذي لا يزال بدوره بعيداً عن مرصد التظاهرات المتنقلة. في شارع رشيد كرامي المتفرع، يواصل آلاف المتخرجين الباحثين عن فرصة عمل "آمنة" في البلد، قصد هذا المجلس، لضرب موعد جديد محتمل مع دورة طويلة من الاختبارات، قد تقودهم في النهاية إلى "الأمان الوظيفي" الحكومي. ويرتبط المجلس بدوره، بالمحاصصة الطائفية التي تشكل القاعدة اللبنانية، والتي لا تكفي وحدها من دون الاستعانة بالنفوذ السياسي.

في منطقة "الصنائع" القريبة، مقر "التفتيش المركزي"، المؤسسة الرقابية على الإدارات العامة، التي أنشئت في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب (1959). ليس التهميش وحده واقع حال هذه المؤسسة اليوم. يختزل "التفتيش المركزي" هيمنة السياسة على هياكل إدارية فارغة من مضمونها، وقد لا يتذكر الجيل المتظاهر حملات تطهير باشرت بها حكومة رفيق الحريري الأولى، في التسعينيات، تلبست بعدد قليل من "الحيتان الصغار" في الوظائف العامة، ليغرق لاحقاً جهاز المراقبة والمحاسبة هذا في سباتٍ عميق.

لا يبعد التفتيش المركزي عن وزارة المالية، في شارع بشارة الخوري، المؤدي إلى وسط بيروت. يوم الأحد ما قبل الماضي، قطعت تظاهرة نسائية حاشدة حركة السير في الشارع، في طريقها إلى قلب العاصمة، مارة من أمام الوزارة التي شكلت لعقود أداة طيّعة لفورة ليبرالية متوحشة في لبنان، مع فرعها العقاري، الدجاجة التي تبيض ذهباً، ومشتهى الطامحين للتوزير والتوظيف. المصلحة العقارية في الوزارة، تعيش حالياً مرحلة ركود، بعد هروب الرساميل الخليجية، التي ساهمت في الطفرة العقارية ما بعد الحرب.

في بيروت، ترتفع سقوف المتظاهرين كثيراً. يأخذ تفرعٌ من شارع بشارة الخوري إلى منطقة الأشرفية المسيحية، في شرقي بيروت. في ساحة ساسين، تطغى الصبغة "الكتائبية"، أو "القواتية"، على المحتشدين يومياً، وإن كان لـ"الحراك المدني" حضور واسع. في الطريق التي يضطر السائقون لمرورها، بعد قطع جسر "الرينغ" الواصل بين البيروتين، تعلو أصوات تخطب بالمتظاهرين. لم يكن لحزبي "الكتائب" أو "القوات"، صولات سابقة تعبّر عن نقمة معيشية. المارونية السياسية، ظلّت لوقت طويل داعمة لمصالح الإقطاع السياسي، ولاقتصاد اليمين، لكن محاربة الفساد أصبح ملحاً، بعد هيمنة "موارنة جدد"، على السلطة.

قد تكون مفردات توصيف الواقع اللبناني، اليوم، ظالمة لبعض سياسييه. لكن لا مكان تحت الشمس في لبنان، للمنزهين عن آفة الفساد المستشري فيه. بالأمس، طغت السياسة على الدعوة لخروج الطلاب في التظاهرات، مستهدفة قطاع التعليم الخاص الكاثوليكي، الذي يعتبر الأكثر كلفة في لبنان، في تواطؤ وصمت من الكنيسة. غداً، قد يتذكر المطالبون بالعدالة الاجتماعية، مرفقاً آخر، غير "سكك الحديد"، أو "الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية"، كمنابع للهدر ومصادر للتندر على الهياكل الوهمية.

في شوارع بيروت، التي أفسحت المجال طويلاً لانتفاضات مناطقية، و"وطنية"، وعروبية، وحزبية، وتقسيمية، تخرج شعارات مطلبية واسعة لم تُعهد من قبل، وتحوي لائحة طويلة، من محاربة الفساد، ووقف الهدر، إلى استعادة الأموال المنهوبة، والحق بالدولة المدنية، وحق المرأة، وحماية الطبقة الوسطى، والعاملة، والممتلكات العامة، والبحر، والبيئة، والطبيعة.

اليوم، تختزل بيروت حالة لبنان الذي يقف بين الانحدار والاهتراء العميق، والفلتان المضبوط. وفيما يقطع شبان وشابات رقصاً، الطرقات التي فتحها الجيش، وتسمع هتافاتهم من الشرفات، يطغى شعور أن لعبة الشارع لا تزال بعيدة عن الخطر، وأن المتظاهرين الباحثين عن الخروج من الهاوية، لا تزال تردعهم الخشية من السقوط فيها. حينها سيقال إن بيروت انفجرت مجدداً فيها صراعات الآخرين، ليفلت سياسيوها مرة أخرى مما ارتكبت أياديهم.

 

 

ذات صلة

الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
الصورة
غارة جوية على قرية الخيام جنوب لبنان، 3 أكتوبر 2024 (فرانس برس)

سياسة

يكثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي من سياسة تدمير المربعات السكنية ونسفها في جنوب لبنان على غرار الاستراتيجية التي يعتمدها في غزة منذ بدء حربه على القطاع
الصورة
آلية عسكرية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، 6 أكتوبر 2024 (ميناحيم كاهانا/فرانس برس)

سياسة

شهر أكتوبر الحالي هو الأصعب على إسرائيل منذ بداية العام 2024، إذ قُتل فيه 64 إسرائيلياً على الأقل، معظمهم جنود، خلال عمليات الاحتلال في غزة ولبنان والضفة.