مشاعية القراءة الورقية
ميخائيل سعد
وكذلك لن أشرح مخاطر شراء المتّة من أحد أنصار حزب الله في ستراسبورغ، مما أدى إلى تنغيص حياة المعارض مصطفى الجرف، وأيضاً لن أُعيد الكلام عن فوائد بذر الكتان للمصاب بالبروستات، فقد أتخمتنا المنشورات بكل أنواع التلميحات والتصريحات عن العدو والصديق، حتى بتنا نكره القراءة، ونستجير منها بالأفلام الأميركية، التي تتحدث عن البطل الفرد الأحد الذي يهزم الأعداء وحده. أو بأفلامهم المفبركة عن خطر الإسلام والمسلمين على الأمن العالمي، حتى غدا الواحد منا يتمنى أن يكون مسلماً، لعله يتحول إلى بطل في عيون الغربيين عامة، وفي عيون الغربيات الشقراوات خاصة.
سأحدثكم اليوم عن اكتشاف جديد عثرت عليه، وأنا أسير تحت مطر مونتريالي خفيف، ذكرني بمطر حمص، عندما غامرت بالسير تحته من مفرق السجن المركزي وحتى جورة الشياح، برفقة صبية حمصية، كان حلم حياتي أن أسير برفقتها بعض الأمتار، قبل أن يرويه المطر فيزهر ورداً، وحبقاً، وزعتراً برياً، وأعشق المطر والحمصيات من يومها حتى الآن.
كنت إذاً أسير على الرصيف المونتريالي برفقة صديقي الدمشقي القاطن في حينا عندما استوقفتني صبية تشبه تلك الحمصية، وقد بلل المطر شعرها الأسود، وبدأت قطراته تحبو ناعمة على وجنتيها، كانت تضع كتابًا في خزانة مركونة على الرصيف، ثم تأخذ غيره من نفس الخزانة، وتتأكد قبل ابتعادها أن باب مغارة "علاء الدين" مغلق بشكل جيد، يمنع دخول المطر، الذي سمحت له أن يعبث بجدائلها، ويتسلل كاللص الظريف إلى عنقها، وعيونه باتجاه الصدر الشامخ الذي يتصدى لحبات المطر، على طريقة وصف أحمد يوسف للنهود.
توقفتُ أمام الباب البلوري للخزانة المغلقة، وأزلت العائق أمام رغبات أناملي في لمس الكتب القابعة في الخزانة، بانتظار من يحررها من سجنها، ولمستها، وعانقت كفي أكثر من كتاب، وتكرم صديقي الدمشقي بالشرح قائلاً: هذا تقليد جديد في مدينة مونتريال، أن يقوم شخص أو محل تجاري، كما هو الحال هنا، بوضع خزانة، تكون عبارة عن مكتبة مجانية للحي، أو للعابرين في الحي، يستطيع أي شخص أن يضع فيها الكتاب الذي قرأه ولا يريد الاحتفاظ به، فيقوم مَن هو بحاجة إليه باستعارته، وقد يضع بدلاً عنه كتاباً آخر، وهكذا، كما ترى الآن، يوجد دائما كتب للإعارة، ويوجد دائماً من يقدم كتاباً قرأه للمكتبة. وهكذا تعم الفائدة والثقافة والتعاون والتضامن الثقافي، وهذا ما يخيف أميركا وإيران وإسرائيل والحكام العرب، إذا تم تطبيقه في مجتمعاتنا.
شكرت صديقي على ما قدمه من إيضحات، لأنني بدونها، ربما خطر على بالي حمل كل الكتب إلى بيتي، وتزيين جدار صالون البيت بها، كي أوهم نفسي وزوار بيتي بأنني مثقف عنيد، رأسه أقوى من قرص شنكليس يابس.
وجدتُ في بيرن، وهي مدينة سوسرية، التقليد نفسه، أثناء زيارتي لأخي قبل عامين. ولا يمكن هنا تجاهل دور الإنترنت والقراءة المباشرة بواسطتها، وفضلها على ظهور هذه العادات في الغرب، بعد الانصراف عن قراءة الكتب الورقية.