وكانت المفاجأة الأخيرة أن صالح لم يصمد في اشتباكاته الأخيرة مع الحوثيين أكثر من يومين، وانهارت حراسة منزله بعد انسحاب وتشتت النسق الثالث لها، المشكل من مسلحين قبليين، وليس من قوات احترافية راهن كثيرون على بقاء ولائها له من القوات الخاصة والحرس الجمهوري، وظنوا أن مهاجمته للحوثيين في آخر أيامه استندت إلى تلك القوات. ويكشف ضابط في القوات الخاصة أن صالح لم يقم باستدعائهم، ولا توزيع السلاح عليهم، حتى بعد طلب بعضهم ذلك، وهذا أمر يبقى شديد الغموض. ويقول الضابط نفسه إنه وزملاؤه عادوا إلى منازلهم منذ عامين، وأصبح من استمر في المعسكرات تحت إمرة قيادات حوثية حتى أولئك الذين ذهبوا للقتال في الجبهات المفتوحة مع الشرعية والتحالف، وأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة مقارنة بمقاتلي اللجان الشعبية التابعة للحوثيين. لكن صالح لم يقم بأي تصرف للحد من تدمير القوات التي كانت موالية له يوماً، واستعاض عن ذلك بالقبائل كعادته في كل الحروب التي خاضها أثناء حكمه، ومنحهم ما حرم الجيش منه، فكان أن انتهى بتخلي القبائل عنه، ومكوث جنوده من ذوي المهارات القتالية العالية في منازلهم بانتظار هيمنة الحوثيين الشاملة على الجيش واستكمال تغيير عقيدتهم القتالية وفقاً لعقيدة الجماعة.
**********************
ولم يتم بناء الجيش اليمني على عقيدة واضحة هي حماية البلد، بل إن كل طرف وصل إلى السلطة قام بإقصاء الأطراف الأخرى، ما أدى تدريجياً إلى الإنقسام الراهن في الجيش اليمني، ولم يخُض حرباً خارج حدوده منذ تأسيسه، واستخدم باستمرار في حروب داخلية، أو بين شطري البلاد قبل الوحدة. وكان هو الجيش الوحيد من جيوش بلدان الربيع العربي الذي انقسم على نفسه، وتخندق كل قسم منه ضد الآخر منذ العام 2011، ليتطور الأمر بتطور الأحداث بعدها حتى الآن. وتعزز هذا الانقسام بدخول اليمن صراعه الراهن منذ مطلع 2015، وتعمق الشرخ في جسد الجيش وجسد الوطن، لأسباب يعود كثير منها إلى التشوهات التي تعرض لها الجيش، ليتحول إلى جيوش متعددة، فيما تدخلت القوى الحزبية والقبلية المحلية والقوى الإقليمية في إعادة صياغته كل مرة.
مع انضمام علي محسن الأحمر لثورة الشباب في العام 2011، انضمت إليه المنطقة العسكرية الشمالية الغربية والفرقة الأولى مدرع (وكان قائداً لهما يومها) والمنطقة العسكرية الشرقية، بينما ظلت المنطقة المركزية والمنطقة الجنوبية، والحرس الجمهوري، والقوات الجوية على ولائها للراحل علي عبد الله صالح. وقادة كل هذه الوحدات من قرية واحدة، هي بيت الأحمر في مديرية سنحان التي يتحدر صالح منها. صعد الرئيس عبدربه منصور هادي إلى كرسي الرئاسة في فبراير/شباط 2012 ليجد أمامه جيشاً مقسوماً إلى طرفين، فقاد عملية إعادة هيكلة للجيش بناء على بنود المبادرة الخليجية، إلا انها كانت هيكلة شكلية، أبرز أهدافها إقصاء أقارب صالح، ولم تتجاوز عملية تغيير مسميات وحدات الجيش وقياداته العليا، فظل التغيير شكلياً ولم يمس الجوهر كما دلت الأحداث اللاحقة.
اتهم هادي بتنصيب أبناء منطقته كقادة لكثير من وحدات الجيش كسلفه، وذلك بعد إعلانه إزاحة قائدي الفرقة الأولى مدرع (23 لواء عسكري) والحرس الجمهوري (33 لواء عسكري)، وإعادة توزيع ألوية القوتين الكبريين في الجيش ورأسي حربة الصراع فيه، في تشكيلات مستحدثة، كالاحتياط والحماية الرئاسية وألوية الصواريخ. وشهدت وحدات الجيش عدة تمردات رفضاً لتغييرات هادي، خصوصاً تعيين قادة جدد على رأسها، لدرجة قيام مئات الأفراد من الحرس الجمهوري بمهاجمة مقر وزارة الدفاع اليمنية في أغسطس/آب 2012. في العام 2014 اشتبك الجيش بعضه مع بعض في عمران، لكن تحت غطاء المسلحين القبليين من الطرفين، باستثناء تدخل صريح للواء 310 الموالي لعلي محسن الأحمر في مواجهة الحوثيين، وتمت تصفية قائده ونهب عتاده من قبل الحوثيين. ذلك التصنيف الظاهري لقوى الصراع أعطى هادي، كقائد للجيش، والدولة مبرراً لإعلان الحياد في المعركة حتى سيطر الحوثيون وقوات صالح على عمران التي تبعد 50 كيلومتراً شمال العاصمة، ليتضح أطراف الصراع أكثر، بتوسع الحوثيين وصالح إلى العاصمة في 21 سبتمبر/أيلول 2014 واقتصار اشتباكاتهم على الفرقة الأولى مدرع دون الحرس الجمهوري، في الوقت الذي لا يزال فيه الجيش اسمياً تحت قيادة هادي بكافة تشكيلاته.
مع الانخراط في الحرب الراهنة المستمرة منذ إعلان التحالف العربي، بقيادة السعودية، تدخله العسكري في اليمن في 26 مارس/آذار 2015، أصبح الجيش اليمني منقسماً على الأرض وموجهاً بعضه ضد بعض، وتحت قيادتين ووزارتي دفاع ورئاستي أركان، كل منهما تعتبر الأخرى غير شرعية. وفتح كل منهما باب التجنيد للحرب ضد الآخر باسم الجمهورية اليمنية. لم يكن الجيش اليمني ضعيفاً لدرجة تساقط كل مؤسسات الدولة في يد الحوثيين - صالح بتلك الطريقة الدرامية، بينما لا زالت السلطة الفعلية وقيادة الجيش في يد هادي. ولم يكن هادي بريئاً في ما حدث لعاصمته ومؤسسات دولته، بما فيها المؤسسات العسكرية، ولم يتورط في صراعات مصالح مكشوفة بهذا الشكل، إلا بعد مراحل من الصراعات المغلفة بأقنعة وطنية وفكرية واجتماعية منذ حقبة الستينيات.
مرحلة التكوين وصراعات الشطرين
عقب نكسة يونيو/حزيران 1967، خرجت الجيوش المصرية التي شاركت في الدفاع عن ثورة سبتمبر 1962، شمال اليمن، وتعرضت صنعاء لعمليتين خطيرتين، أولهما الإطاحة بالمشير عبدالله السلال عن طريق انقلاب أبيض في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وإزاحة القيادات العسكرية الموالية له من قبل شخصيات عسكرية وتقليدية مقربة من السعودية في الأغلب، وثانيهما بدء حصار صنعاء، من قبل القوات الملكية المدعومة من الرياض، فيما عرف بحصار السبعين يوماً. كانت القوى التقدمية في الجيش قد دافعت عن صنعاء بشدة، ورفضت مساومة الملكيين والسعودية على مصير الجمهورية الوليدة، وانتصرت بدحر الحصار عن صنعاء. فشكلت وحدات الجيش، ذات الأغلبية من القوميين العرب والماركسيين والبعثيين، قوة أخافت القوى القبلية والتقليدية، كما أخافت الرياض في الوقت ذاته، خصوصاً أن انتصارها تزامن مع تولي الجبهة القومية في عدن سدة الحكم، فتمت تصفية تلك القوى المنتصرة من قبل هؤلاء، بضرب القوميين بالبعثيين في الجيش، فيما عرف بأحداث أغسطس 1968، ليتمكنوا من السيطرة على السلطة وإدارة البلد بطريقتهم، بعد تسريح الجنود وتصفية، أو تحييد، القيادات.
قام علي سيف الخولاني، إحدى القيادات العسكرية المناهضة للقوميين، بتشكيل قوات العاصفة من مناطق طوق صنعاء، كبديل لأفراد الجيش من مناطق الوسط. وأعطى ذلك مؤشراً سلبياً لمن تم إقصاؤهم من الجيش وخروجهم من صنعاء من أبناء وسط وجنوب الشمال، فقاموا بدورهم بالتحالف مع نظام عدن ضد القوى المهيمنة في صنعاء خلال حرب 1979 بين الشطرين، وحرب الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى. ومع صعود صالح للحكم، وتعرضه لأول محاولة انقلاب عسكري من قبل الناصريين، في أكتوبر/تشرين الأول 1978، حدثت تصفية جديدة في أوساط جيش الشمال، أدت إلى نزوح كثير من قوات العمالقة والمظلات إلى الشطر الجنوبي، في شرخ جديد للجيش والقوى السياسية. وفي تلك المرحلة من الصراع المسلح، تحولت عقيدة جيش الشمال من حرب الملكيين والسعودية إلى التخلص من القوميين واليساريين داخل الشمال وحلفائهم في عدن، وعزز ذلك تأسيس القوى الإسلامية، الموالية للرياض، ما عرف بالجبهة الإسلامية أمام الجبهة الوطنية (اليسارية)، وشكل ذلك شرخاً في الجيش والنسيج الاجتماعي للشمال. كما أن العقيدة القتالية لجيش الجنوب تحولت نحو النظام في الشمال وحليفه في الرياض.
وبينما تخلصت صنعاء من مناهضيها وبنت جيشاً موالياً وموحداً نسبياً، أدت أحداث 6 يناير/كانون الثاني 1986 في عدن إلى شق وتفكيك جيش الجنوب، الأكثر تنظيماً من جيش الشمال يومها. وكانت القوى الحاكمة في الجنوب قد خاضت صراعين سابقين أديا إلى تسريح وتصفية جزء من جيش الجنوب، الأولى عند الانقلاب على قحطان الشعبي في 1969، والأخرى مع إعدام الرئيس سالم ربيع علي في 1978، إلا أن أحداث يناير 1986 أدت إلى نزوح آلاف العسكريين من أبناء أبين وشبوة تحديداً إلى الشمال، وكونوا ألوية عسكرية على أراضي الشمال، برعاية نظام صنعاء، وبالتالي أصبح لكل نظام أعداء عسكريين لدى النظام الآخر، يمكنه توظيفهم ضده في أي لحظة.
حرب 1994 وحروب صعدة
في مايو/أيار 1990 أعلنت وحدة اندماجية بين شطري اليمن. وكان جيشا الشطرين يحملان عقيدة قتالية كل ضد الآخر، وظل ملف توحيد الجيشين عالقاً حتى حرب 1994، باستثناء نقل بعض ألوية الجنوب إلى الشمال والعكس، مع احتفاظ كل جيش بولائه لقيادته الشطرية السابقة. ومع نشوب حرب 1994 انخرطت القوات الجنوبية، المقيمة في الشمال، في الحرب مع جيش صنعاء، ضد جيش عدن والحزب الاشتراكي من خصوم 1986، باستثناء الألوية المنقولة للشمال بعد الوحدة. وأدى انتصار صنعاء-صالح إلى إقصاء وتسريح الآلاف من جيش الجنوب السابق، ما أدى إلى انخراط كثير منهم في الجيش الموالي للشرعية للقتال ضد الحوثيين-صالح اليوم.
وحملت حرب 1994 وجهاً مناطقياً، كشمال ضد الجنوب، ووجهاً فكرياً، كقبليين وإسلاميين ضد تقدميين ويساريين. وتمت إعادة توجيه عقيدة الجيش اليمني ضد "الانفصاليين"، وبشكل أخف ضد السعودية، التي دعمت الحزب الاشتراكي يومها. وتم دمج الآلاف من المقاتلين الإسلاميين والقبليين في الجيش كاستحقاق، كما حدث في حروب الثورة والمناطق الوسطى قبلها، وبعدها في حروب صعدة. وقام الجيش بتجنيد الآلاف، حسب خلفيات صراع رأسي النظام، صالح ومحسن، واستمر الأمر حتى 2011 وما بعدها. وكان التجنيد عن طريق شخصيات موالية لكل طرف، بحيث توجه عقيدة المجند الجديد قبل أي شيء ضد الوحدات العسكرية الأخرى، الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع تحديداً. وتحول شيوخ القبائل إلى أصحاب نفوذ وتأثير قوي في جيش مشتت الولاءات.
خلال الفترة بين يونيو/ حزيران 2004 وفبراير/ شباط 2010 خاض الجيش ومقاتلون قبليون وإسلاميون أيضاً ست حروب مع الحوثيين في صعدة. وشكل الحوثيون خصماً للجيش حينها، وفجأة تحولت السعودية في العقيدة القتالية للجيش من عدو إلى حليف أيضاً لمشاركتها في الحرب السادسة ضد الحوثيين. وكانت الفرقة الأولى مدرع والمنطقة الشمالية الغربية، بقيادة علي محسن الأحمر، هي المخولة بخوض الحرب ضد الحوثيين، لأنها تقع في نطاقها الجغرافي، وبالتالي تراكمت الدماء والثارات بين الحوثيين ومحسن والقوات الموالية له. لكن صالح كان يهدف إلى إضعاف محسن الأحمر وقواته وليس انتصارهما، في إطار ترجيح كفة الحرس الجمهوري، بقيادة نجله أحمد، وكانت تلك بداية الخلافات بين الحليفين التقليديين، صالح والأحمر، وسياسة عززت انقسام وحدات الجيش بهذا الشكل.
الجيش بعد 2011
كان علي محسن الأحمر قد رسخ جذوره في الجيش بشكل يصعب على صالح إزاحته عسكرياً، ورسخ علاقته بالإسلاميين وحزب الإصلاح وبعض القبائل بشكل يصعب عليه إزاحته سياسياً، وهكذا كان المشهد عشية الربيع اليمني في فبراير 2011، الذي انضم إليه محسن في أول إعلان واضح لمدى خلافاته مع صالح الذي كان ذراعه اليمنى منذ صعوده للحكم في العام 1978، وحتى ظهور قائد الحرس الجمهوري أحمد علي على المشهد العسكري والسياسي مطلع الألفية، فاصبح كل جيش (الفرقة والحرس) مستنفراً ضد الآخر مع فارق القوة والتسليح والعدد لصالح الحرس الجمهوري بالطبع، لأن عقيدته صممت لهذا الهدف، بشكل ضمني وفق طريقة اختيار المجندين.
خرج الحوثي من حروبه الست مع الدولة بخبرة قتالية جيدة، وفكر عقائدي قوي، وانضباط تنظيمي عالٍ، فكون جيشاً موالياً له من اللجان الشعبية، مثل قوة ثالثة بين جيشي صالح ومحسن. وهناك جيش شعبي رابع متباين الولاءات تم تشكيله من مسلحين قبليين لمحاربة الحوثيين في الشمال حيناً، وتنظيم "القاعدة" في الجنوب حيناً آخر. وتحولت لجان صنعاء الشعبية الموالية للحوثيين، ولجان عدن والمقاومة الشعبية بتعز وغيرها والكيانات شبه العسكرية التي شكلتها الإمارات والسعودية في مناطق سيطرة التحالف، بمرور الوقت إلى وحدات داخل الجيش اليمني، إذ يجري ضمها إلى كشوفات الجيش هنا وهناك، لكن كوحدات تتبع قادتها وولاءاتها القائمة من دون تعديل. وتراجع دور الجيش الرسمي في المعركة، وأصبح كل يمني يحمل السلاح خصماً لليمني الذي يحمل السلاح في الضفة الأخرى، ولم يعد للدولة اليمنية جيش حقيقي، ذو ولاء وطني مخلص، مع عودة آلاف الجنود إلى منازلهم مع نشوب الصراع الراهن لعدم قناعتهم بالقتال مع أي طرف، وهؤلاء تقريباً هم الذين تم تجنيدهم وفق القنوات الرسمية، وليس عبر الشخصيات الموالية لأي طرف، مع العلم أن هناك آلاف المجندين الوهميين الذين يتواجدون فقط في الكشوفات المالية لجيش مشتت كان يستهلك ثلث الموازنة العامة للدولة تقريباً.