مسلسل "مهووس": مكتئبون يعرّفون موقعهم في العالم

07 نوفمبر 2018
الإعدادات الزمنية للمسلسل تبدو وكأنها في المستقبل القريب (نتفلكس)
+ الخط -
في الحادي والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، أطلقت نتفليكس مسلسل "مهووس" Maniac بحلقاته العشر على منصتها، وهو مسلسل أميركي سيكولوجي قصير، يأتي تحت تصنيف الدراما الكوميدية السوداء. تقوم قصة المسلسل على مسلسل نرويجي آخر بنفس الاسم من كتابة هوكين باس موسيغا، وقد شارك نفس الكاتب في كتابة المسلسل الجديد، علماً أنّ كلا المسلسلين متوفر على نتفليكس. المسلسل من إخراج كاري فوكوناجا (مخرج مسلسل True Detective). يلاحظ المُشاهد أن المخرج قد أضفى بصمته الخاصة على المسلسل مثلما فعل مع سابقهِ، فجاء لنا عمل تلفزيوني بصبغة سينمائية. المسلسل من بطولة الممثلة الحائزة على الأوسكار إيما ستون، والفنان المرشح للأوسكار مرتين جونا هيل، ويعد هذا الظهور المشترك لهما الأول بعد نجوميتهما في فيلم Superbad (2007) قبل عقدٍ كامل. 

يمكن اعتبار هذا المسلسل الأول لإيما ستون وجونا هيل وهما في دور البطولة، إذ إن مسيرتهما الفنية زاخرة بالأدوار على الشاشة الكبيرة وأدوار فرعية شبه معدومة على الشاشة الصغيرة. هذا الظهور ليس مفاجئاً، فمؤخراً هناك انزياح كبير من نجوم السينما إلى عالم المسلسلات والعروض التلفزيونية، مثل ماثيو ماكنهوي في مسلسل True detective وتوم هاردي في مسلسل Taboo وجوليا روبرتس في Homecoming، فالكل يريد أن يكون له دور في العصر الذهبي للشاشة الصغيرة التي سرقت الأضواء من الشاشة الكبيرة.


المزيد من الدواء
تدور قصة مسلسل Maniac حول حياة شخصيتين رئيسيتين (أوين ميليغرام وآني لاندزبيرغ) يعانيان من مجموعة من المشاكل النفسية بسبب بعض الأحداث المأساوية التي تعرضا لها في حياتهما؛ ما يجعل حياتهما في الحاضر أكثر صعوبة وتعقيداً. خلال الحلقة الأولى، تُعرض على شخصية أوين ميليغرام المشاركة في تجربة صيدلانية لأحد الأدوية، موعوداً بأن مراحل الدواء (A وB وC) التي سيتلقاها ستساعده على التخلص من كل مشاكله وأمراضه النفسية، أما آني لاندزبيرغ، فكانت عن طريق علاقتها بابن مدير الشركة الصيدلانية قد أدمنت استخدام المُنتج الدوائي A، والذي يسمح لها بالعودة لذكرى أليمة معينة لتعيشها مراراً وتكراراً، منتشية من الألم في تلك الذكرى، ما يدفعها للمشاركة في هذه التجربة على أمل الحصول على المزيد من هذا الدواء. تتواصل تعقيدات المسلسل، حينما يرتبط عقلا أوين وآني عن طريق خطأ في التجربة الصيدلانية التي يخضعان لها، وهو ما يسمح لهما بتشارك زوايا عقليهما كما لو كانا شخصين طبيعيين (ما هو الطبيعي؟) في عوالم وسيناريوهات مختلفة.


أدوات العزلة
الإعدادات الزمنية للمسلسل تبدو وكأنها في المستقبل القريب جداً، وليست بعيدة عن واقعنا كثيراً. عند مشاهدتك للمسلسل، تشعر بأنه فيه لمسة من مسلسل Black Mirror الذي يعرض الجانب السوداوي للتكنولوجيا مستقبلًا. في هذا المسلسل، ترى الكثير من المشاهد، حيث تكون التكنولوجيا أداة عُزلة أكثر منها أداة خدمة للتواصل البشري، ولا يقتصر الأمر على التكنولوجيا، بل على كل أشكال إنتاجات البشر. نجد أن هناك العديد من الخدمات (أغلبها من كتابة باتريك سمرفيل، وهو أحد كتاب المسلسل)، مثل خدمة الصداقة بالوكالة Friend Proxy، وقد اختلق باتريك سمرفيل هذا الفكرة أثناء دراسته في الكلية كمصدر رزق له. تقوم الفكرة على إيجاد محل يمكن للناس القدوم إليه والتسكع فيه، بينما يتظاهر هو بأنه صديقهم، هذه الخدمة التي تبدو في ظاهرها غبية، تصير حقيقية في مسلسل Maniac ولكن بشكل آخر؛ فبدلاً من الوجود في محل معين، يمكن للناس أن يجتمعوا بالصديق الوهمي على وجبة غذاء أو في متحف أو أي مكان آخر، ويمكن لطالب الصداقة أن يرسل بملف حول الصديق الذي يريده، ويمكن للمتظاهر أن يمثل دور هذا الصديق ليعطيهم التجربة "الوهمية" المطلوبة. ومن أفكار سمرفيل أيضاً، طباعة ورق تواليت مع إعلانات تجارية عليها، وهو ما كان موجودًا أيضًا في المسلسل. ومن الخدمات الأخرى المشابهة هي خدمة Ad Buddy، والتي تسمح للمستخدم أن يشتري بعض المنتجات والاستفادة من بعض الخدمات مثل القطار من دون الحاجة للدفع، ولكن في المقابل، يكون عليه أن يسمع بعض الإعلانات التجارية التي يرويها عليه أحد وكلاء شركة Ad Buddy وجهاً لوجه (نعم هناك شخص يأتي ليعرض عليك إعلانات ويجلس بجانبك ويتحدث إليك)، وهي فكرة ليست بعيدة عن التطبيق في عالمٍ صارت فيه الـ Pop-up ads شكلاً جوهرياً من أشكال الإعلان.


أسئلة الماهيّة
لعل أكثر نماذج الأسئلة المتكررة في المسلسل هو نموذج What’s real? What’s Normal? وتتكرر هذه الأسئلة خصوصاً على لساني أوين وآني، متسائلين عن أهمية أن تكون طبيعياً، وعن ماهية الطبيعي أساسًا. تظهر هذه الأسئلة عندما يقف أوين موقف المتشكك حيال ما يشاهده ويعيشه في أثناء التجارب وما يعيشه واقعاً، نظراً لتشخيصه بمرض الفُصام Schizophrenia، حيث لا يعود قادراً على التفريق بين الخيال وبين الواقع.

تستحث التجربة الصيدلانية عدة تجارب في خيالات المشاركين، إما تجارب حقيقية عاشوها، أو تختلق تجربة خيالية بناءً على عناصر وشخصيات حقيقية في حياتهم. هذه التجارب، تخرج المشاركين من ثوبهم في الحياة الحقيقية وتعطيهم أدواراً في هذه الخيالات ليعيشوها، مثل أن يكونا أزواجاً ولهم أبناء أو أن يكونوا عملاء سريين أو غيرها من السيناريوهات المختلفة، التي تتغير حدتها بتغير مستوى الدواء (A وB وC)، وهو يصيب بعض المشاركين بالارتباك، خصوصاً أوين الذي يقرر الانسحاب من التجربة خوفاً من أنها قد زادت حالته سوءاً بدلاً من علاجه في التمييز بين ما هو الحقيقي وما هو الخيالي.

يستغرق المسلسل في البحث في خبايا النفس البشرية، فتجد إيما ستون ومعترفة للمرة الأولى تقول عندما سألها الطبيب المسؤول عن التجربة أن تصف واقعها في الحلقة الخامسة: "الواقع هو أني مكتئبة، وأنا كذلك منذ فترة طويلة"، وعندما سألها الطبيب عن التجارب الخيالية التي عاشتها، فردّت عليهِ: "لقد كانت الحيوات التي عشتها في تلك السيناريوهات أكثر أهمية ووقعاً من حياتي الواقعية". ومع زيادة الحوارات في المسلسل، والتركيز فيها، ستجد فكرة العمل لا تتمحور حول المرض، وإنما حول مكان الشخص في العالم. فكل ما يريده أوين أن يكون له دور، لن يكون بيدقاً، على الرغم من محاولته عدم الاختلاط مع العالم أبداً، وعلى الرغم من عيشهِ في شقة سكنية من دون إنترنت وكاميرات مراقبة وإرسال محمول، إلا أنه يريد أن يكون له دور، ويرغب في إنقاذ العالم ومساعدة المحتاجين، خصوصاً أولئك المقربين منه.

طواحين الهواء
يتكرر ظهور رواية دون كيخوت في المسلسل، والتي على مستوى ما لها علاقة رمزية في الشخصيات والحبكة في المسلسل، والذي يختلف فهمه من شخص لآخر، إلا أننا نربطه في رحلة أوين وآني بالتغلب على طواحين الهواء في حياتهما، فهما دائمًا يخوضان معاركهما بالطريقة الخاطئة، حول وضع خط فاصل بينهما وبين الحقيقة وبين المأساة وبين كل شيء، ويحاولان دائماً أن يقوما بما يوجبهما المجتمع والعائلة على فعله، وهذه ما كان عليهما التغلب عليه في المقام الأول، وأن عليهما أن يعرفا أين يخوضان معركتهما الفعلية من موقعهما من نفسيهما، وأن يتقبلا حقيقة أنهما طبيعيان مثل أي شخص آخر وأن لهما الحق في المرور في ما يمران بهِ من موجات اكتئاب وحزن ومأساة واختلاف، وأن تعريف شخصيتيهما، يأتي من داخلهما، وليس من الخارج.

مسلسل بلوكبستر؟
أثناء مشاهدة المسلسل، سيشعر المتفرج بأن هناك دائماً حدثاً ما أو مشهداً ما يقوده إلى لحظة الـ "واو" التي قد تدفعه دون وعي منه إلى الكتابة عنه على التويتر ربّما أو أن يرسل لصديق له ويخبره أن المسلسل "عبقري"، ولكن الشيء المؤسف أن أثر هذه الـ "واو" لا يستمر لأبعد من نهاية الحلقة، فتجد المسلسل حين يعرض مشهداً عبقرياً، يغوص في التفاخر به، وتجده يفسره لك ويعيده عليه وكأنه يسألك: "أرأيت ما أبدعني؟"، وهو ما يفقد اللقطات لذتها أحيانًا. وكذلك البعد الدرامي للمسلسل ليس عميقًا كما نتصور، والثيمة الرئيسية التي يناقشها ليست جديدة، وإنما استخدم أدوات جديدة في عرضها، ولذلك، وحين تنتهي من مشاهدة المسلسل، لن تجد في رأسك العديد من التساؤلات حوله ولا الكثير من الألغاز، لأنك وبمجرد اختتامه، ستكون قد فهمته كاملًا، وهذا عيب في إنتاجات نيتفليكس مؤخرًا، إذ تميل إلى المتعة اللحظية على حساب المتعة المستمرة، ويمكننا أن نرى نفس الشيء مع مسلسل La Case De Papel، متعة لحظة للمشاهِد، تنتهي بانتهاء الحلقة أو بانتهاء المسلسل من دون وجود أي أسئلة كُبرى تغلي في رأس الجمهور. هل هذا شيء سيئ أم جيد؟
عناصر مكتملة
كما ذكرنا في المقدمة، قدّم لنا مخرج True Detective هنا تحفة سينمائية على الشاشة الصغيرة، فنجد أن التصوير سينمائي مُتقن ومتنوع ومدهش، واستخدام الموسيقى التصويرية كان مناسبا جدا لدرجة أننا في العديد من المشاهد نشعر وكأننا تشاهد فيلما لا مسلسلا، فتكامل العناصر الثلاثة (التصوير السينمائي/ الموسيقى التصورية/ التصميم الإنتاجي) يجعلنا نجلس ونتأمل المسلسل مثل تأملنا للوحة فنية، ولو لثوانٍ. وطبعًا هذا الإتقان والتكامل لم يكونا ممكنين لولا الأداء العالمي من جونا هيل وإيما ستون، وهو أقل ما نتوقعه من ممثل ترشح مرتين للأوسكار ومن ممثلة حازت على الأوسكار.


دلالات
المساهمون