خلال الشهور الأربعة الماضية وجد المضاربون الدوليون ضالتهم في سوق الصرف التركي، لما تعرضت له الليرة من انهيار، لأسباب مختلفة ما بين السياسي والاقتصادي، لكن مؤخرًا ثمة تحسن في سعر العملة التركية أمام باقي العملات الأجنبية، فقد وصل سعر الدولار إلى 5.63 ليرة يوم الأثنين، بعد أن طوت تركيا ملف القس الأميركي أندرو روبنسون، وكذلك طي ملفات أخرى معلقة مع أميركا، وكذلك تعاطي السعودية مع الحكومة التركية في ملف اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
وقد يشهد سعر الليرة مزيدا من التحسن أمام العملات الأجنبية الأخرى، خلال الفترة المقبلة في ظل توقعات بانتهاء قضية "خلق بنك"، والإفراج عن مدير البنك التركي المحتجز لدى أميركا، وتلويح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، برفع العقوبات الاقتصادية عن تركيا المتعلقة بالرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات التركية المصدرة لأميركا، وبالأحرى تسوية ملف الخلافات والرسوم المتبادلة بين البلدين.
كما كان لحزمة الإجراءات الاقتصادية متوسطة المدى التي أعلنت عنها الحكومة لمواجهة التضخم دور في تحسن سعر الليرة، وإن كان أثر التداعيات الإيجابية على الصعيد السياسي أعلى. ويلاحظ أن حالة التذبذب التي مرت بها الليرة خلال الشهور الأربعة الماضية تركت آثارها السلبية على متخذي قرار الاستثمار في البلاد، سواء كان مستثمرًا محليًا أو أجنبيًا.
ووفق البيانات المنشورة على موقع معهد الإحصاء والبنك المركزي التركيين، فإن ثمة تحسنا في المؤشرات الخارجية للبلاد، من شأنها أن تعكس التحسن الحادث في سعر الليرة، فقد أظهرت البيانات الخاصة بشهر أغسطس/آب 2018 أن هناك فائضًا بالميزان الجاري بلغ 2.6 مليار دولار، مقابل عجز 0.9 مليار دولار خلال الشهر المناظر من 2017.
ويعد الفائض المتحقق بالميزان الجاري في أغسطس 2018 الأول منذ سبتمبر/أيلول 2015.
ويعني ذلك أن ثمة مراجعة للعلاقات التجارية والاقتصادية الخارجية لتركيا خلال الشهور الماضية، بما يؤدي إلى تحسين عرض الدولار، وتقليل الطلب عليه، وهي سياسة تستهدف تقوية موقف الليرة في سوق سعر الصرف.
وقد يذهب البعض إلى أن ثمة فرصا أتاحتها أزمة الليرة للمستثمرين من شراء بعض الأصول بأسعار رخيصة، لكن قد يكون ذلك على صعيد المضاربين، أما المستثمرون فلهم حسابات أخرى، خاصة أن ملامح المسرح السياسي لم تكن واضحة.
فالعبرة في قرار المستثمر في شراء الأصول الرأسمالية ليس رخص ثمنها، لكن بما هو بعد ذلك من مناخ الاستثمار، وتكلفة الاستثمار، والأهم هو العائد على الاستثمار، فمهما كان ثمن الأصول الرأسمالية رخيصًا فلن يشفع في ارتفاع تكاليف الإنتاج الأخرى، من زيادة في أسعار الوقود، أو ارتفاع تكاليف الإنتاج.
سيناريوهات المستقبل
أعلنت مؤسسة الاستثمار التابعة للرئاسة التركية مؤخرًا عن حصيلة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خلال الشهور الثمانية الأولى من 2018، وتتوقع الحكومة أن تتجاوز الحصيلة في 2018 ما كانت عليه في 2017 عند نحو 11 مليار دولار.
وحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن نسبة الاستثمارات المحلية للناتج المحلي الإجمالي في 2017 ارتفعت إلى 30.8% بعد أن كانت 28.2%، وهي نسب مرتفعة وتساعد على تحقيق معدلات النمو العالية التي وصلت إليها تركيا بنحو 7.4% بنهاية العام الماضي، بينما بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 نحو 1.2%، منخفضة عما تحقق في عام 2016 عند نسبة 1.5%.
ويدفع هذا الأداء الحكومة للحرص على استمرار أداء الاستثمارات الكلية عند معدلات مرتفعة، حتى تحافظ على مؤشرات الاقتصاد الكلية الأخرى ذات الأبعاد الاجتماعية مثل معدلات البطالة والتضخم، حيث لوحظ أن هذه المؤشرات كان أداؤها سلبيًا خلال الشهور الماضية، بسبب انخفاض قيمة الليرة.
فمعدل التضخم حسب نتائج معهد الإحصاء بلغ بنهاية أغسطس 2018 نحو 24.5% على أساس سنوي، أما معدل البطالة فبلغ 10.8% بنهاية يوليو/تموز 2018، بزيادة 0.1% عن أداء يونيو/حزيران 2018.
ولذا عمدت الحكومة إلى الإعلان عن خطتها الاقتصادية لمواجهة زيادة الأسعار، والمتمثلة في استهداف تخفيض معدل التضخم وسعر الفائدة على القروض مرتفعة التكلفة، وكذلك المساهمة في تخفيض أسعار السلع بنحو 10%.
وحسب تصريحات براءات البيرق وزير الخزانة، فإن المؤشرات الاقتصادية الكلية على صعيد التضخم وسعر الفائدة والصرف سوف تتحسن خلال الشهرين القادمين، أي بنهاية عام 2018.
مزيد من الاستقرار
تظل مستهدفات الحكومة التركية تجاه تحسين المؤشرات الاقتصادية رهن الاختبار خلال الفترة القادمة، وبلا شك فإن نجاح الحكومة بتحقيق مستهدفاتها، يبعث برسالة أمل للمستثمرين لاستعادة الثقة بمعدلات ما قبل أزمة انهيار الليرة، بل قد يزيد عن تلك المعدلات، في ضوء الدروس التي تكبدتها الحكومة خلال تلك الأزمة.
فاستقرار المؤشرات الاقتصادية الكلية، وعلى رأسها سعر الليرة من شأنه أن يجعل المستثمر يتخذ قراره بشأن المشروعات الاقتصادية بروية، ويخطط للأجلين المتوسط والطويل الأجل، بل والذهاب إلى الأنشطة التي ترغبها الحكومة لزيادة القيمة المضافة.
كما أن استقرار سعر الليرة وتحسنه مقابل العملات الأخرى، وكذلك خفض الفائدة وتراجع التضخم، من شأن ذلك كله أن يقضي على الظواهر الاقتصادية السلبية، من المضاربة والدولرة، لصالح الاتجاه للاستثمار.
وقد يكون قطاع العقارات هو الأكثر تأثرًا سلبيًا بتحسن مناخ الاستثمار والمؤشرات الاقتصادية الكلية، حيث ذهبت أموال كثيرة إلى القطاع، خلال أزمة الليرة، خاصة تلك القادمة من الخارج للاستفادة من فروق سعر الصرف لصالح العملات الأجنبية لشراء وحدات عقارية وأراض.
وسيكون التوجه خلال الفترة القادمة مع تحسن الليرة نحو الاستثمار الصناعي والزراعي.
لكن هذه النتائج رهن سيناريو التفاؤل الذي بدت ظواهره من حالة التهدئة في ملف العلاقات التركية الأميركية، وكذلك نجاح الحكومة في تكملة برنامجها للإصلاح الاقتصادي، بينما عالم السياسة متقلب وله مخاوفه، في ظل محيط إقليمي غير مواتٍ ويستهدف تركيا بشكل كبير، ومن شأن هذا التوقع أن يجعلنا نتحسب لوجود تهديدات أو مخاطر، من شأنها أن يكون لها انعكاساتها الاقتصادية السلبية على تركيا.