مستقبل الدولار في مهبّ الريح

09 يوليو 2020
توسيع الكتلة الدولارية في أسواق العالم
+ الخط -

وصل سعر الذهب، مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، في أسواق المضاربة إلى حوالي 1789 دولاراً للأونصة الواحدة، وهو أعلى سعر حققه منذ سبع سنوات. ولكنه عاد وتراجع، وبلغ في اليوم السادس من الشهر حوالي 1784، أو أقل بخمس دولارات. لكن المحللين يكادون يجمعون على أن الذهب سوف يقطع حاجز الـ1800 دولار للأونصة، على الرغم من التحسّن الذي جرى على أسواق البورصات المالية العالمية، وهو ما حدث بالفعل أثناء تعاملات اليوم الخميس ، حيث استقر الذهب فوق المستوى البالغ 1800 دولار للأوقية .

وقال محللون إن "الزيادة السريعة في حالات كوفيد-19 الجديدة عالميا أضافت إلى حالة التوتر المستمرة، فيما يفضل المستثمرون التحوط من تلك المخاطرة عبر الذهب، حتى في الوقت الذي يشترون فيه الأسهم مجددا".
ويستعيد الذهب الأصفر بَريقَهُ بسبب الخوف من جائحة كورونا، وارتفاع عدد المصابين بها في العالم، ما عدا في بلدان محدودة. وتشهد دولٌ، مثل الهند وباكستان والسعودية ومصر والبرازيل والمكسيك والولايات المتحدة، عودة إلى قمم جديدة في مُنحنى عدد المصابين، وتزداد خصوصا في دولٍ لا تتوفر بشأنها إحصاءات دقيقة في أفريقيا، مثل إثيوبيا، ونيجيريا، ودول في قارة أميركا اللاتينية.

وقد تعلمنا في هذه الظروف أن سعر الذهب يرتفع عادة لأنه يصبح الملاذ الآمن للمدّخرين، ولكن ليس وحده، فأصحاب الوفورات المالية الفائضة ينحازون إلى الأسهم التي يعتقدون أن مستقبلها واعدٌ، مثل أسهم الشركات التكنولوجية في مجال الاتصالات والتقنية، ومنظومات التوزيع (Supply Chains) وشركات الطاقة المتجدّدة، وإنتاج الغذاء، والأدوية، والمطهرات والمعقمات.
وكذلك يُقبل الناس على شراء العقارات كملجأ للحفاظ على قيمة مدّخراتهم، خصوصا من صيادي الفرص الذين يتطلعون دوماً إلى امتلاك ما يعرضه المعسرون وأصحاب الحاجة إلى السيولة. ومن ثَمّ يتحرّك السوق، بعد أن يخلى من المستميتين على البيع. وتدريجياً، يتحوّل سوق العقار من سوقٍ يحابي المشترين إلى سوقٍ مُتعاطفٍ مع البائعين.
وقد تتنافس الملاذات الثلاثة (الذهب، والأسهم، والعقارات)، بعضها مع بعض على المدّخرات المتاحة لهذا النوع من الاستثمار. ولكن الذهب بشكل خاص سيرتفع أكثر في المستقبل. والسبب الرئيس هو خشية الناس من احتمالات الفوضى في أسواق العملات، والخوف، بالدرجة الأساسية، على مستقبل الدولار باعتباره عملة احتياطية دولية، ووسيلة تبادل، وكذا وسيلة ادّخار. ولذلك، تلجأ مؤسسات مالية كثيرة، وخصوصا البنوك المركزية، إلى زيادة مخزونها الاحتياطي من الذهب، وهو قرارٌ حكيم في هذه الظروف.
وفِي دولٍ، مثل الهند وباكستان وبنغلادش، وفي الوطن العربي والدول الإسلامية، فإن الادخار بالذهب السلعي (الذهب غير النقدي) يرتفع على شكل حلي وأساور للنساء خصوصا. وفي الدول التي تملك النساء فيها مدّخرات ينفقن جزءاً مهماً منها على شراء الذهب.
وارتفاع سعر الذهب في العالم، كما تعكسه أرقام بورصاته، يؤكد أن الطلب عليه في ارتفاع، ما يرفع سعره باستمرار. وهذا يؤدّي بالطبع إلى انخفاض سعر الدولار مقابل الذهب، ولكن ذلك ليس له تأثير كبير على سعر الدولار حتى الآن حيال العملات الرئيسية في العالم، مثل اليوان الصيني (RPM)، أو سعر اليورو أو الين الياباني أو الجنيه الإسترليني.

وسيتحدد مستقبل سعر الدولار في ضوء سياسات الولايات المتحدة النقدية، وكذلك مدى حدّة الحروب التكنولوجية، والتجارية، والنقدية (حرب العملات) بين الولايات المتحدة وباقي دول العالم القوية، وخصوصا الصين.
وقد لجأت الولايات المتحدة منذ انتشار فيروس كورونا والحجْر على حركة الناس، وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة والفقر، إلى ضخّ أموالٍ في السوق بمبالغ خيالية. وقد وصل عدد الدولارات التي ضخت حتى الآن، أو التي وعد بضخها، إلى حوالي 4.5 تريليونات دولار. ولنتخيل لو أن الولايات المتحدة لم تتخل عام 1972/ 1973 عن التزامها بتحويل الدولار إلى ذهب، فماذا سيكون عليه سعر الذهب حالياً؟
وحيث أن الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري ومديونية عالية، فإن جزءاً كبيراً من هذه الدولارات، المطبوعة بدون أسباب موضوعية، ستجد طريقها إلى سوق اليورودولار، أو إلى خارج الولايات المتحدة. وهذا سوف يزيد من عرض الدولارات، ولكنه لن يؤثر على سعر صرف الدولار في ظل الجائحة، لأن هناك لهفة في دول كثيرة على الدولار. وإضافة إلى ذلك، يتطلب إنعاش الاقتصاد الأميركي إبقاء سعر الفائدة منخفضاً، وهذا سيعني أن المردود على الادخار بالدولار سيبقى محدوداً جداً.
وما يدفع الصين إلى عدم التسرع في زيادة بيعها للدولار أن لها استثمارات دولارية ضخمة داخل الولايات المتحدة وخارجها. ولذلك، لن تطلق النار على قدمها كي تغيظ الولايات المتحدة، ولكنها قطعاً لن تكون راغبةً في زيادة مدّخراتها بالدولار في الفترة المقبلة.

أما الأمر الثاني الذي سيقلق الولايات المتحدة ودول كثيرة فهو التغير الهائل في بنية الاستهلاك، من السلع غير الضرورية، والخدمات غير الضرورية، إلى السلع والخدمات الضرورية، فقائمة الشركات الكبرى التي شارفت على الإفلاس، أو أفلست فعلاً، تعكس هذه الحقيقة، مثل سلاسل المطاعم، ومراكز التسوق، والعطور، والملابس الفاخرة والأحذية، وحتى الأدوات الرياضية. وسوف يعطي هذا للصين فرصة ذهبية، لكي تبيع منتجاتها بنفسها مباشرة في الأسواق بدون وساطة الأسماء التجارية الكبرى، وحتى صناعات السيارات والطائرات ستصبح من أهم صادرات الصين للعالم.
ما تأثير ذلك على الدولار واليورو؟ سيبقى القضية التي تؤرق كثيرين من اقتصاديي الغرب المرموقين، والذين بدأ بعضهم في كتابة أعمدة عزاء للدولار.

المساهمون