مستقبل الثورات العربية من منظور الشباب وخبرته

18 يناير 2016
نقاش في دور الشباب في المرحلة الانتقالية (بلال وجدي/الأناضول)
+ الخط -


من النادر أن يجتمع هذا العدد من ناشطي ثورات الربيع العربي تحت سقف واحد. جاؤوا بآمال ورؤى متباينة، انعكاساً لأوضاعهم. بعضهم جاء من المنافي، وآخرون كانوا أعضاء في برلمان بلدهم المنتخب. ومن الناشطين من ترك بلده في خضم معارك ضارية أو على شفير حرب لم تُعلن بعد. تلك الفرصة النادرة كانت خلال ورشة أكاديمية من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والتي ناقش خلالها ناشطون مصريون وتونسيون وسوريون ويمنيون وليبيون، "مستقبل الثورات العربية من منظور الشباب وخبرته"، على مدى يومي 15 و16 يناير/ كانون الثاني الحالي.

جاءت النقاشات نابعة من تجارب متباينة عمرها 5 سنوات، من النجاح والتعثر، لتكون الحوارات كاشفة وناقدة، سواء بين الناشطين أنفسهم في القطر الواحد، أو كقراءة لتجربة الثورات العربية ككل. هيمنت قضية الفترة الانتقالية على النقاش، بالإضافة إلى علاقة الثورات العربية بـ"الإسلام السياسي"، وسؤال العنف في الثورة، أكان عنف السلطة، أو عنف المعارضين لها.

شبيهة هذه الأيام بتلك التي انطلقت فيها ثورات الشباب العربي، قبل خمس سنوات من تونس، لتنتقل إلى مصر واليمن وليبيا وسورية، وتجلب معها آمال وأحلام التغيير والديمقراطية للمجتمعات العربية. بيد أن الإطاحة بقادة هذه الأنظمة (ما عدا سورية) لم تستطع إسقاط القوى التقليدية القديمة أو ما يُدعى بالدولة العميقة، فعادت هذه القوى لتَصَدُّر المشهد السياسي في أكثر من بلد عربي، بما يُعرف الآن بـ"الثوة المضادة".

كان المدخل في الورشة، بالحديث عن الخطوط العامة للثورات العربية اليوم، وتهميش الثورات العربية لصالح الحديث عن الإرهاب، وتجاهل البنى الاجتماعية الأساسية، كالقبيلة والطائفة أو الطبقة الاجتماعية، واستبدالها بقضية الإرهاب التي تهمّش مكونات المجتمع العربي. ما أنتج هواجس التخيير بين عدوان الاستبداد، أو عدوان الإرهاب لوأد أي نزوع ديمقراطي في المنطقة.

كما جاء الحديث عن الإعلام، ودوره في حقبة ما بعد الثورات، ليكتشف الشباب بأن وسائط التواصل الاجتماعي (السوشيل ميديا) ليست كافية وحدها للتغيير، فالإعلام التقليدي (في مصر على سبيل المثال)، استطاع أن ينجح في قيادة الثورة المضادة، فيما الشباب اليمني لم يستطيع أن ينتج إعلاماً يعبّر عن آماله بشكل واضح، ليكون، من البدائل، انتشار "كاسيتات" تحوي أغانٍ ناقدة للسلطة.

الثورات العربية طرحت أسئلة متعددة، على مستوى الانقسام في الهوية، وسؤال العفوية والتنظيم، وحضور العامل الدولي وتأثيره في أي حراك في العالم العربي، بالإضافة إلى الاستقطاب العلماني - الإسلامي، والذي يُنظر إليه كاستقطاب مُدمّر للثورات والديمقراطية في الوقت نفسه.

وتطرّق المشاركون في الورشة إلى دور الشباب في المرحلة الانتقالية، والذين كان لهم الدور الأهم في الثورات، والصعوبات التي يواجهونها اليوم، والتي تتمثّل معظمها في صعوبة العمل المؤسساتي أو الجماعي. ففي سورية تمثّلت التحديات في غياب تجمّع سياسي موحّد يستطيع جمع الشباب حتى ضمن ما يُعرف بالمجالس المحلية، حيث انحصر دور الشباب في عمل التنسيقيات. كما أن قصر النظر وعدم معرفة الخصم هي من أهم المشكلات التي واجهت الشباب في محاولة المشاركة في العمل السياسي.

في تونس مثلاً، ساهم الشباب في صنع الأحداث السياسية ولكنه اليوم غير موجود في مراكز أخذ القرار، فهو غير متدرّب على العمل ضمن مؤسسات سياسية. وتكمن الإشكالية الأساسية بأن الشباب لم يستطع أن يتحوّل من فكر الثورة إلى لحظة البناء، ما أثّر على تنظيم الشباب، كما أن التيارات اليسارية لم تكن منتظمة حتى يتبعها الشباب مقارنة بالتنظيمات الإسلامية.

يرى البعض أن الثورات العربية في مأزق تاريخي، حيث إن الجماهير لا زالت تتجادل حول أهلية الحكم وشرعية السلطة، بدل الحديث عن آليات بناء مؤسسات الدولة التي ستستمر بغض النظر عمن سيحكم. ومع غياب العامل القيادي في بداية الفعل الثوري، ظهرت أثناء هذه الانتفاضات تنظيمات وتيارات وأحزاب بعضها كان محظوراً، وبعضها كان يعمل في ظل النظام السياسي السابق، وبدأت تُثبت وجودها على الأرض.

وعن هذا تكلم المشاركون من مصر، معيدين سبب تعثّر مسارات الثورة إلى أنهم لم يكونوا مستعدين للثورات المضادة وما حدث بعدها، كذلك التغافل عن تحديد المشكلات غير السياسية التي يعاني منها المجتمع في مصر. أما العامل الأهم، فتمثّل في التصادم بين شرعيتين: شرعية الثوار وشرعية صناديق الاقتراع، فلم تكن هناك قيادة موحّدة في مصر أثناء الثورة المصرية، ما أدى إلى تعقيد مساراتها وخروجها عما هو مألوف في الثورات التي عرفها التاريخ.

في سورية مثلاً، يتمثّل المأزق الأساسي في الموقع الجيوستراتيجي والحركات "الجهادية" التي أصبحت تتصدّر الساحة الآن، كذلك فكرة أن سورية لم تستطع إنجاز أي شيء حتى الآن، وكلها عوامل ساهمت في تأزم الوضع أكثر.

أما تونس، فتتجلى المعضلة الأساسية فيها الآن، في استخدام القوى السياسية موضوع الإرهاب لكسر المطالب الشعبية، ما نتج عنه تعسر في المسار الديمقراطي. ولأن تونس لم تستطع أن تُقدّم بدائل أخرى للشعب، دفع هذا الأمر العديد من الشباب للانضمام إلى تنظيم "داعش"، فهو الأكثر تنظيماً من وجهة نظر هؤلاء الشباب، نظراً للتخبط السياسي في المنطقة.

ربما كانت التجربة التونسية مختلفة، في مسألة المرحلة الانتقالية. فتونس عاشت مرحلة انتقالية حقيقية، كانت محفوفة بالمصاعب والإشكاليات، لكنها تطورت، بغض النظر عن الانتقادات التي تواجه التجربة التونسية، خصوصاً من ناحية إحباط الشباب لعدم دخولهم كفاعلين في المرحلة الانتقالية. يمكن اعتبار انتخاب "المجلس الوطني التأسيسي" كأبرز ملامح المرحلة الانتقالية. فالمجلس هو الذي كتب الدستور، وقام بدور البرلمان، وانتخب الرئيس، من خلال تجربة طويلة من الاختلافات والتنازلات والتوافقات والائتلافات. وتُظهر تجربة تونس، بحسب الشباب التونسي، بأن الانتقال الديمقراطي ممكن عربياً، في حال تم وضع أسس هذا الانتقال منذ البداية.

تجاوزت التجربة التونسية أصعب لحظاتها، عندما وقفت في وجه الاغتيال السياسي، وكان شكري بلعيد ومحمد البرهامي أبرز الضحايا. فجرى تجاوز الأزمة بأكبر قدر من التوافقات السياسية. لحركة "النهضة" دور في هذا، حسب أحد المشاركين التونسيين، فقد تجنّبت الصدام مع نظام المخلوع زين العابدين بن علي (المتبقي منه)، كما رفضت السير في قانون "تحصين الثورة" أو "العزل السياسي"، لتجنب أن تبدأ تونس تجربتها نحو الديمقراطية بتهميش وإقصاء أي طرف من أطراف العملية السياسية، وإن كان من النظام الذي ثار عليه التونسيون.

لكن ما زالت أبرز إحباطات التونسيين تأتي من عدم رؤيتهم للشباب كفاعل سياسي في تونس ما بعد الثورة، والإحباط على مستوى العدالة الاجتماعية، التي ليس من المتوقّع أن تحلها الديمقراطية وحدها. فينظر الكثير إلى أن حركات الإسلام السياسي التونسية "طبّعت" مع النخب السياسية، على حساب تحقيق مطالب الشارع التونسي.

اقرأ أيضاً: تونس تحتفل بالذكرى الخامسة للثورة

في علاقة "الإسلام السياسي" بالثورات، وعلى الرغم من تباين المواقف من مصطلح "الإسلام السياسي" نفسه، إلا أن التوافق كان على أن أحزاب "الإسلام السياسي"، هي تلك التي تضع مفهوم "حاكمية الشريعة" فوق الدولة، سواء أكانت شديدة التطرف، أو كبيرة الانفتاح.

في مصر، يبدو بأن الأمور تختلف كثيراً، بفعل الثورة المضادة، والانقلاب، واحتكار العسكر للسلطة السياسية. فالحالة في مصر "عالقة"، إن صح الوصف، فلم تكتمل الثورة، كما ترفض أن تعود إلى الوراء. "الإسلام السياسي" في مصر في مأزق حقيقي بفعل الأحداث، بسبب الضغط الهائل على المنتمين إليه. فهناك آلاف المعتقلين، وعدد كبير من القتلى والجرحى بفعل عنف السلطات بعد الانقلاب. بالإضافة إلى أحكام الإعدام بحق قادة أبرز حركات "الإسلام السياسي" المصرية، "الإخوان المسلمين".

"الإسلام السياسي" مُطارد في مصر، ولا توجد أية حالة حوار أو نقاش بين التيارات السياسية في مصر، ما عزز مرحلة الجمود. لذا يطرح الشباب المصري عدة أفكار لمحاولة معالجة الأوضاع الراهنة، وهي ترتكز بحسب المصريين على عدة نقاط، أبرزها: الاتفاق على مبادئ للحراك، لا مجرد تنسيق مواقف. بالإضافة إلى البدء في مراجعات متبادلة حقيقية للتجربة الماضية، والتأسيس لتحالفات بعيدة المدى بين القوى غير المتنافرة، ودمج دماء جديدة في أي حراك مرتقب. الثورة المصرية كانت لحظة توحّد للمصريين، وتسامي على الخلافات السياسية والطائفية، لكن ما جاء بعدها، وبفعل الانقلاب على مشروع الثورة، عزّز الانقسام في المجتمع.

ووُجهت انتقادات من بعض المشاركين في الورشة لتوجّه حركة "الإخوان المسلمين" المصرية، وسياساتها بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني. فبحسب بعض المشاركين، نظر "الإخوان" إلى لحظة ما بعد الثورة كلحظة "تمكين" لا لحظة توافق لبناء عملية انتقالية. أما مشكلة "الإخوان" اليوم، فبالإضافة إلى قمع السلطة لهم، فتأتي من الخلافات الداخلية في التنظيم.

تتباين المواقف من تيارات "الإسلام السياسي" في سورية، البعض يرفضها، ويراها تطرح رؤى وأفكاراً تناقض الأصل الذي خرج من أجله السوريون أول مرة: الحرية وإسقاط الاستبداد. وهنا الحديث ليس عن تيارات "الإسلام السياسي" بالمعنى الصارخ، من الفاعلين على الساحة السورية، كتنظيم "داعش" أو "جبهة النصرة"، بل التيارات السلفية الجهادية التي يحوي مشروعها "شيئاً" وطنياً سوريّاً. تعيش بعض هذه التيارات تناقضات داخلية بحسب السوريين: فهي معجبة بالنموذج التركي وتجربة حزب "العدالة والتنمية"، لكنها لا تطبق هذا النموذج ولا تسعى لذلك. هي تيارات لها تواجد عسكري على الأرض، وقدرتها عالية على التعبئة، لكنها بدأت تخسر بعض مجتمعها المحلي، بسبب ما تفرضه من قضايا تشدّد في الحياة اليومية، بالإضافة إلى خسارتها بعض ما تسيطر عليه من أرضٍ بفعل التدخّل الروسي. كل هذا ساهم بشكل أو بآخر في عدم امتلاكها أي مشروع واضح، وتزايد التساؤلات حول دورها في رسم مستقبل سورية.

يرى السوريون بأن الثورة السورية عرّت ما يُسمى بـ"محور الممانعة" والذي ارتكب عنفاً في الداخل السوري يفوق أي عنف. بالإضافة إلى أن نظام بشار الأسد، بحسب السوريين، أرسل رسائل تطمين إلى إسرائيل فور اندلاع الثورة، عبر رامي مخلوف، بالإضافة إلى أن التدخّل الروسي لصالح الأسد، جاء بتنسيق مع إسرائيل، ما يعني بأن محور الممانعة استخدم القضية الفلسطينية كغطاء لتمرير قمعه للداخل السوري، ومد النفوذ الإيراني في المنطقة.

أما عن آفاق الحل، فيرى الشباب السوري عدة تحديات لأي حل تفاوضي، ويمكن تلخيص هذه التحديات باستهداف القوات الروسية للقوى التفاوضية المعارضة، ووجود العامل الأجنبي في صفوف الأسد (المليشيات الأجنبية) والذي من المستبعد خضوعها لأي عملية تفاوضية. بالإضافة إلى وجود تنظيم "داعش" كعامل يدفع باتجاه عرقلة أي أفق للحل السياسي في سورية.

في ليبيا، لا تبدو الحالة بعيدة عن الحالة السورية، في لحظة اندلاع الثورة. فنظام العقيد الراحل معمر القذافي مارس كل أنواع العنف على المجتمع الليبي خلال 42 سنة. فتم تفكيك المكوّن الليبي، كنوع من أنواع العنف. بالإضافة إلى استخدام "العنف الجنسي" ضد النساء في ليبيا، أثناء الثورة، كانتقام من القذافي من الشعب الثائر عليه. وهي الحالة التي حدثت أيضاً في سورية، وعلى نطاق واسع، إن كان في حالات اجتياح المدن السورية من قوات النظام، وحلفائه، أو في معتقلات النظام.

في اليمن، يبدو المأزق مختلفاً، فقد غابت محاولات تشكيل الدولة اليمنية، لصالح التنافس على السلطة بين الفرقاء السياسيين. من أهم التحديات التي تواجهها اليمن، بحسب الناشطين اليمنيين، ضمان عدم استخدام رجال السلطة لمؤسسات الدولة ضد المجتمع، كذلك ضمان عدم استخدام رجال المعارضة للمكوّنات الاجتماعية، ما يعني دخول اليمن في حالات انقسامات قبلية وطائفية. وتحوّلت الأحزاب الوطنية في اليمن إلى مشاريع مناطقية وعشائرية وطائفية، أو في حالات أسوأ: مشاريع ارتزاق.

لكن لم يفقد الشباب اليمني الأمل في المستقبل، فيرون أنه من الضروري اليوم الرقابة على حركة "المقاومة الوطنية"، حتى لا تتحوّل إلى حركات طائفية أو مناطقية أو عشائرية. والدفع باتجاه تأسيس الجيش اليمني على أسس وطنية، لمواجهة أي أخطار تحدق باليمن والمنطقة، إن كانت مخاطر النفوذ الإيراني، أو بناء مجتمع طائفي في اليمن، على غرار تحرك الحوثيين.

اقرأ أيضاً: "المؤشر العربي 2015": 89% من العرب ضد "داعش"

المساهمون