منذ ساعات الصباح الأولى، تقصد مكتبها الصغير في المدينة العتيقة في تونس، في انتظار هؤلاء الذين سوف يقصدونها، طلباً لمساعدة ما. عشرات هم الضحايا الذين يتوافدون يومياً إلى مكتبها، أما هي فتصغي إليهم وتسجّل شكاواهم قبل أن تتصل ببعض المحامين لتولّي تلك الشكاوى. وغالباً ما ترافقهم إلى المحاكم وتتابع قضاياهم مهما طالت.
هي مريم منوّر رئيسة "الحزب التونسي" وناشطة حقوقية تدافع عن ضحايا التعذيب والانتهاكات والقمع. ولعلّها أفضل الذين يفهمون معنى القمع، الذي خبرته مذ كانت في السادسة عشرة من عمرها.
وكانت رحلتها قد بدأت وهي مراهقة، حين ألّفت كتاباً. لم تكن تعلم من هو الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وإذا كان طاغية أم لا. حينها، طُلب منها أن تُطلع وزارة الداخلية على الكتاب قبل النشر. على مدى أسبوع، راح والدها يصحبها يومياً إلى مقرّ وزارة الداخلية، حيث تبقى من الساعة الثامنة صباحاً ولغاية السادسة مساءً. لم تتعرّض للضرب، لكن أسئلة كثيرة كانت تُطرَح عليها، من قبيل "هل يقابل والدك معارضين في البيت سراً؟". كانت المرّة الأولى التي تسمع بها كلمة معارضين ولم تكن تعي معناها. لكنها ظلّت تجيب بـ"كلا"، مخافة أن توقع والدها في أي مشاكل.
طوال ذلك الأسبوع، كانت تنتظر الحصول على الإيداع القانوني في الداخلية. وكانت تتساءل عن معنى أن تنتج عملاً ثقافياً، تتدخّل فيه وزارة الداخلية.
بعد صدور الكتاب، طُلب منها الانخراط في مكتب الشعبة التابع لـ"التجمع الدستوري الديمقراطي" (الحزب الحاكم سابقاً)، لكنّها رفضت، ولم تكن تعي حينها حتى ما معنى تجمّع. لكنّها انخرطت في "جمعية النساء الديمقراطيات"، التي تهتم بقضايا انتهاك حقوق الإنسان. بعدها، طُردت من المدرسة تعسفياً. "كنت في الصف السادس ثانوي، وراحت والدتي لإحضار ملفي الدراسي من المعهد لأنتقل إلى معهد آخر. حينها، علمت بأنّني طردت نهائياً، ولا يحقّ لي الانتساب إلى أي معهد حكومي أو خاص". وبقي الحلّ الوحيد أمامها، الانتساب إلى معهد فرنسي. وبالفعل، "حصلت على شهادة بكالوريا فرنسيّة. كل هذا أشعرني بالظلم، وبدأت بعدها أعي وأفهم الكثير".
كانت منوّر تعيش مع عائلتها بالقرب من الشاطئ. هناك، "كنت أسمع قصص عائلات وحكايات أفرادها الذين يتعرّضون للتوقيف، قبل أن تضطر إلى دفع الرشى". منذ ذلك الوقت، تكوّن لديها حسّ مناهض للظلم. وبعدما انتقلت للعيش والدراسة في فرنسا، "أصبح لديّ وعي بما تعنيه ديمقراطية". وعادت إلى تونس، لتشتهر في منطقتها بـ"الفتاة الشقراء التي تدافع عن الناس". وهكذا، كلما واجه أحدهم مشكلة، يتّصل بها لتحرير شكوى ضد من اعتدى عليه.
حاولت تأسيس جمعيّة للمضطهدين، لكن طلبها رُفض. ولأنّها لم تستطع نقد نظام بن علي في صحف تونسية، كانت تفعل في إحدى الصحف الفرنسية وتحرّر مقالات باللغة الفرنسية عن قصص ومشاكل هؤلاء الذين يعنّفون خلال توقيفهم.
في عام 2009، أعلنت مريم ترشّحها في وجه "التجمع الدستوري الديمقراطي" وصخر الماطري صهر بن علي، على قائمة "تونس 2" كمستقلة. لكن والديها اختُطفا وتعرّضا للتعذيب، "وهو ما دمّرني. في البداية، لم أفهم ما حصل. وبعدما كنت أظنّ أنهما أوقفا في الداخلية أو مركز بوشوشة، لكنهما كانا قد اختطفا بواسطة سيارة شرطة في وضح النهار من منطقة الكرم. وعوملا مثل المجرمين أو الإرهابيين وتعرّضا لتعذيب شديد، في الشارع وفي السيارة وفي المركز".
كل ذلك، دفعها إلى تأسي "الحزب التونسي" بعد الثورة. وراحت تساعد الناس "لأنني أعلم ما معنى قوات الأمن. أعلم أنّها قادرة على قتلك أو اغتصابك أو تلفيق أي تهمة لك. هي واثقة من أنها تملك حصانة في تونس وسوف تفلت من العقاب".
اليوم، هي تستقبل ضحايا التعذيب والاعتداءات الأمنية والانتهاكات المختلفة. دفاعها عن هؤلاء جعلها تتعرّض إلى التوقيف والملاحقة، بالإضافة إلى إبقاء مكتبها تحت المراقبة، وقد تمّ اقتحامه مراراً. لذا، رأت نفسها مضطرة إلى إصدار بيان قالت فيه إنّه "في حال وجدت مخدّرات في مكتبي أو أي ممنوعات أخرى، فإنه لا شكّ أمر ملفّق. صحيح أن شيئاً لم يُفقَد منه، إلا أنني أتخوّف من أن يكونوا قد وضعوا أجهزة تنصّت أو مواد ممنوعة".
قبل نحو عامين، في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2013، أبلغتها وزارة الداخلية بأنّها مهدّدة بالقتل، ووعدوها بتوفير مرافقة لحمايتها. لكنها رفضت "حماية البوليس"، فطلبوا منها إقراراً خطياً بأنّها رفضت حمايتهم. وبعثت برسالة إلى وزير الداخلية تعلمه فيها برفضها لحمايتهم، لأنّها تتخوّف من الشرطة أكثر من غيرها من الأطراف.
اقرأ أيضاً: الهادي درغام يبيعُ أدب السجون على أرصفة تونس