مراكُش: مدينة عالميّة حيث عبق الفنّ والتاريخ والفقر

27 مايو 2014
مدينة مراكش (Getty)
+ الخط -
مراكُش، (وتُلفظ مراكوش أيضاً)، مدينة كَونيّة عالمية، لِما يؤمّها من أبناء جنسيّات مختلفة حول العالم. فأنت ترى فيها آتين من شعوب القارّات والثقافات كلّها، تجمعهم الساحات العامة والمقاهي والمطاعم والحانات والمسارح.

وأصل الاسم أمازيغي "أموراكوش"، وهو مركّب من كلمتين "أمور" و"أكوش"، أي أرض الله. وكثيراً ما يستعمل الأمازيغ كلمة "تامورت" أو "أمور"، التي تعني البلاد، في تسمية البلدان والمدن.

في الليلة الأولى من وصولي إلى المدينة شهدت، برفقة الشاعر ابن مراكش ياسين عدنان، أمسية شعريّة موسيقيّة مذهلة، بما جمعت من شعراء وموسيقيين عالميين، وشارك فيها عدد من الفنانين تحت عنوان "تعال إلى بيتي".

الأمسية شهدت مختارات شعرية من جلجامش حتى ابن زيدون والحلاج، مروراً بامرئ القيس، وبأداء تمثيليّ من فنانة تؤدّي الرقص التعبيري على نحو فنيّ يرقى إلى الروح الصوفية.

في اليوم التالي كانت الرحلة في المدينة القديمة، برفقة ورعاية الفنان التشكيليّ والفوتوغرافيّ أحمد بن إسماعيل، ابن المدينة الذي يخلّدها في أعماله الفنية، رسماً وفوتوغرافيا. وعلى درّاجته خضنا رحلة في الأزقّة والمعالم الأساسية للمدينة التي يزيد عمرها على ألف عام. إذ أسّسها العام 1062 ميلادي أبو بكر بن عامر، ابن عم الزعيم يوسف بن تاشفين، الذي سُميَّت باسمه مدرسة ابن يوسف، أشهر مدارس المدينة. وهي ما تزال تحتفظ بمبانيها القديمة المأهولة منذ مئات السنين. وهذه رحلة تحتاج وحدها إلى فصول.

في ساحة جامع "لِفنا"، كما يلفظها المغاربة بكسر اللّام (وهي الفِنا ربما، الفَناء ربّما) وحدها، تستطيع أن ترى عالماً مصغّراً من العالم الكبير، عالما ينتمي إلى كلّ الفئات والأجناس والطبقات، مع غلبة للفئات الشعبية. وترى حلقات من السحرة والمهرّجين الذين يقدّمون شكلاً من أشكال "المسرح" الهزلي الشعبيّ الذي يعتمد الحركات البهلوانية، واللهجة المحكية ذات الطابع "الطرائفيّ"، والأداء المضحك لرجال ونساء وأطفال حتّى. فيما يتجمهر المتفرجون ليطالعوا هذا الشكل من "الفرجة" المسرحية البسيطة، أو "المسرح الحرّ"، أو مسرح الحكواتي المعروف في بلاد الشام. وهو أيضاً مصدر إلهام للحركة الفنية المسرحية في المغرب كلّه. فقد استلهم من "الفرجة" كتّاب المسرح المغربي الكثير من أعمالهم. وخصوصاً الأعمال التي تقارب(السيرتين الهلالية والعنترية. هو مسرح الحياة والعيش، مصدر رزق فئة ليست قليلة من أبناء الشعب المغربي في هذه المدينة. ففي هذه الساحة، أكثر من غيرها، تجد من "يخدمون" (أي يشتغلون، حسب التعبير المغربيّ دائماً) ويعيشون من هذه المهن المتوارثة عبر الأجيال.

وإذا كان ثمّة من يسترزق من بيع سلع متعددة، وثمّة نساء يعملن في مجال الوشم بالحنّاء، إضافة إلى أسواق متعدّدة المواد، من خضار وفواكه وحلويّات وأشكال وأنواع من التمور التي تُشتهر بها البلاد، فإنّ الظاهرة التي تميز الساحة هي "الحناطير" التي يستأجرها "السيّاح" لتطوف بهم في أرجاء المدينة. حنطور يجرّه حصانان، وتختلف بالطبع أنواع الخيول وأشكالها ومستواها، لكنّها تقوم بدور جيد للسائح الذي لا يرغب في التجوال مشياً على قدميه، أو ربما يرغب في "تجربة" هذه الرحلة التي تعتبر "نزهة" بسعر زهيد نسبة إلى ما يصرفه السائح هنا.

لكنّ الظاهرة الأشد بروزاً في مراكش، وأكثر من أيّ مدينة مغربية، أو عالمية ربّما، هي الدرّاجات الهوائية والنارية التي تقودها النساء من كل الفئات، الشابات وكبار السنّ، المتدينة وغير المتدينة... ترى هذه الدرّاجات تزاحم السيّارات، عدداً وحضوراً مميّزاً، كما ترى مواقف خاصّة بها مدفوعة الأجر، تشبه مواقف السيارات، لكنّها تحتل الأرصفة، وتُدار من قِبل أصحاب محلات يقدمون هذه الخدمة. ظاهرة لا أظنّ أن لها مثيلاً في العالم، وربما كانت ناجمة عن التزايد السكاني من جهة، وكونها وسيلة أكثر عملانية من وجه آخر، خصوصاً في مدينة تكثر فيها الأزقّة و"الزنقات" الضيقة التي يصعب على السيارات دخولها. لكنّها تعبّر أيضاً عن مقدار الانفتاح الذي توصل إليه المجتمع المغربي، ومقدار تحرّر المرأة وخوضها في الحياة ببساطة أكبر وقيود أقل.

وتتبع هذه الظاهرة، وتتفرّع عنها، مسألة ركوب أكثر من شخص على الدرّاجة. وربّما كان البارز هو ركوب الزوجات خلف أزواجهنّ، أو الفتاة خلف صديقها، ما يؤشّر أيضاً إلى هذا القدر من التحرّر والانفتاح الناجمين عن أوضاع اقتصادية صعبة، أكثر منه عن نضج فكري أو سياسي، رغم عدم القدرة على الجزم بحضور وحجم هذه الأسباب.

ترتبط بالفقر ظاهرة لا يلمسها الزائر أو العابر، ظاهرة "السياحة الجنسية"، في صورها المختلفة، والأبشع هي دعارة الأطفال والقاصرات في مدينة يقارب عدد سكّانها المليون. فالسياحة الجنسية، كما يتحدّث العالمون بها، تتفشّى على نحو شديد الخطورة، رغم كلّ المحاولات للحدّ منها. وهو ما تستطيع أن تتلمس صوراً منه في الساحة المذكورة، حيث الأطفال والفتيان على الدرّاجات يروّجون هذه "السلعة" المطلوبة من قبل الأجانب، وبعض أبناء دول الخليج. لكنّ هذا الجانب يتطلب بحثاً أعمق وأوسع.

المساهمون