عبر 622 صفحة، يعرض وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون كيري، مذكراته الخاصة التي تتناول حياته الشخصية وطفولته وشبابه، منذ مولده عام 1943، وصولًا إلى نهاية خدمته العامة وزيراً للخارجية الأميركية عام 2017، كاشفًا عن فحوى بعض اجتماعاته السرية بزعماء العالم، ومن ضمنها اجتماعه الأول مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في دمشق، عام 2009.
وتعرض فصول الكتاب العشرين تفاصيل مختلفة عن قضايا مهمة عاصرها كيري، وارتبط بها بصفته الشخصية، كحرب فيتنام، التي شارك فيها مقاتلا ضمن مئات الآلاف من العسكريين الأميركيين، وصولًا إلى معارضته الحادة هذه الحرب بعد انتهاء خدمته العسكرية. وتعرض المذكرات كذلك فصولًا مهمة من التاريخ الأميركي المعاصر، شهدها كيري أثناء خدمته في مجلس الشيوخ، والتي امتدت ثلاثة عقود، وما تلاها من تبوّئِه منصب وزير الخارجية، ما جعله شاهدًا على قضايا مهمة، منها إشرافه على التفاوض مع إيران وصولًا إلى الاتفاق النووي، والتوصل لاتفاق باريس للمناخ، ومواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، والتعامل مع الحرب الدائرة في سورية.
ولا يعير كيري قضية الربيع العربي ومحاولة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي أهمية تذكر في كتابه، إذ تحدث في عدة أسطر مقتضبة عن نهاية حكم الرئيس محمد مرسي في مصر، في حين لم يتطرق إلى الشأن التونسي.
من الأسد إلى نتنياهو
ويسترجع كيرى ذكريات قيامه بزيارة مهمة لدمشق عام 2009 للقاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد، الذي فاجأ السيناتور الأميركي في الحديث عن رغبته في التوصل إلى صفقة سلام مع إسرائيل تعود معها مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل عام 1967 إلى السيادة السورية.
ويذكر كيري أن الأسد سأله "ما المطلوب لبدء محادثات سلام جدية مع إسرائيل، لضمان عودة هضبة الجولان؟"، ليرد عليه قائلًا: "إن كنت جادًا في ذلك فعليك تقديم مقترحاتك". واقترح كيري أن يوجه الأسد رسالة خطية بهذا الشأن إلى الرئيس أوباما، على أن يحملها هو شخصيًا، وهو ما كان. وفي اليوم التالي زار كيري إسرائيل للقاء رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، وبحسب النص الوارد في الصفحة 390 من الكتاب" تفاجأ نتنياهو بأن يكون الأسد مستعد للذهاب إلى هذا الحد الذي اعتبره بأنه يتجاوز، ما كان يمكن ان يصله عبر الوساطة التركية".
وتطرّق كيري إلى اجتماعه الأول مع الأسد حينما زار العاصمة السورية دمشق عام 2009، مستذكرًا الحوار الذي دار بينهما حول "المنشأة النووية التي قصفتها إسرائيل عام 2007"، وهو ما أنكره الأسد بشكل قاطع.
ووصف كيري حديث الأسد بالقول: "كانت كذبة غبية، غير مقبولة، إلا أنه كذب بلا تردد".
عطفًا على ذلك، يلخّص كيري انطباعاته عن الأسد، بعد كلّ لقاءاته معه، بالقول: "رجل لديه القدرة على الكذب في وجهك وهو لا يبعد عنك أكثر من أربعة أقدام؛ يمكنه ببساطة الكذب على العالم، والقول إنه لم يقصف شعبه بالغازات السامة حتى الموت".
ويشير كيري في مذكراته إلى أنه خلال اجتماعه الثاني بالأسد، طرح عليه موضوع وقف دعم "حزب الله" اللبناني، ليردّ عليه الأخير بالقول: "كل شيء قابل للتفاوض".
مقتل بن لادن
يسترجع كيرى الفترة الحرجة من علاقات بلاده مع حليفتها باكستان وأفغانستان، وهي الفترة التي صاحبت خدمة كيري رئيسا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. ويتحدث باستفاضة عن عملية قتل زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، والتي جرت في بداية شهر مايو/أيار 2011، على يد قوة أميركية خاصة تسللت إلى المنزل السري المختبئ فيه زعيم التنظيم وعائلته على متن مروحيتين، من دون استئذان أو تنسيق أو إبلاغ الحكومة الباكستانية مسبقًا.
ويتحدث كيرى، بإسهاب، عن تفاصيل اتخاذ قرار مهاجمة بيت بن لادن من دون الرجوع للسلطات الباكستانية، خوفًا من أفشالها العملية حال إخبارها بها مسبقًا. وعلى الرغم من التحالف العسكري القديم بين الدولتين، والتسهيلات التي تقدمها باكستان للمجهود العسكري الأميركي في أفغانستان، وتلقي إسلام أباد ما قيمته مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية الأميركية، فإن الثقة تنعدم بين الطرفين.
وتوجه السيناتور جون كيري، كما يذكر في صفحة 387، للقاء مع الرئيس الباكستاني، آصف علي زرادي، ورئيس الوزراء يوسف جيلاني، في محاولة لرأب الصدع في علاقات الدولتين. وكانت هناك مشكلات كثيرة عالقة ومزعجة، من أهمها مصير المروحية التي أصابتها أضرار أمام بيت بن لادن، ولم تتمكن من المغادرة، وتهديدات الباكستانيين بالسماح للصين بالاطلاع على ما تحويه من تكنولوجيا أو أسرار في التصميم وأنظمة التشغيل.
ويشير كيري إلى اندهاشه من طلب الباكستانيين الحصول على تعهد مكتوب منه بعدم تعرض بلادهم لهجوم عسكري أميركي بسبب تبعات قضية مقتل أسامة بن لادن. وحصل الباكستانيون على البيان المطلوب بعدما تمت مراجعة النص كلمة كلمة من الطرفين. ورفض كيرى مقترحًا باكستانيًا بأن يقسم بدمه على التزام بلاده بهذا التعهد.
ندم عرفات
ويذكر كيري أنه أثناء لقائه مع الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في مدينة رام الله، خلال شهر يناير/كانون الثاني 2002، وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، وخلال تناولهما العشاء، همس عرفات لكيري قائلًا "أخطأت؛ كان ينبغي القبول بصفقة الرئيس بيل كلينتون". إلا أن الأمر لم يكن يبدو بهذه السهولة كما يعتقد كيري، إذ يرى أن موقف الدول العربية غير المؤيد لهذا الاتفاق ساعد ودفع باتجاه فشله. ويستشهد كيري، في الصفحة 453، بحديث كلينتون الهاتفي مع الرئيس المصري، حسني مبارك، طالبًا منه الضغط على عرفات للقبول بالاتفاق، وفوجئ كلينتون برفض الرئيس المصري، وقوله "تريد أن أدعم مثل هذا الاتفاق.. لن يحدث".
ويعتقد كيرى أنه كان من الأفضل البحث في المشاكل الأقل تعقيدًا من أجل بناء ثقة بين الأطراف المتنازعة، وهو ما لم يحدث. ويقول إن واشنطن تصورت إمكانية التأسيس للسلام الاقتصادي أولًا كمدخل أكثر براغماتية للسلام السياسي والأمني. وهو ما تم بالفعل بحثه، وطلب كيري من رئيس شركة "ماكينزي" دومينيك بارتون، دراسة إمكانيات الاقتصاد الفلسطيني وقدراته المستقبلية، وهو ما تم من الشركة بدون أي مقابل مالي. وانتهت شركة ماكينزي للتأكيد على أن الاقتصاد الفلسطيني يتمتع بفرص واعدة حال تحقيق السلام أولًا.
اجتماع سري في العقبة
خلال زيارة الرئيس أوباما لإسرائيل في مارس/آذار 2013 تجدد الحديث حول ضرورة عودة مسار التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين. واجتمع نتنياهو مع كيري في "فندق الملك داوود" في القدس، وأكد طبقًا لرواية كيري على استعداده للتفاوض مرة أخرى في محاولة جادة للوصول لصيغة سلام مقبولة من الطرفين.
إلا أن نتنياهو أصر لكيري على ضرورة أن تفهم واشنطن حقيقيتين، الأولى: أن الكل في الشرق الأوسط يكذبون على واشنطن، وعلى الإدارة الأميركية تفهّم ذلك، والثانية: أن أقصى ما يستطيع أن يقدمه نتنياهو وحكومته اليمينية لمحمود عباس ربما يكون أقل من أن يقبل به عباس.
وأدرك كيرى حينذاك أن شكوك الفلسطينيين حول نتنياهو وحكومته اليمينية غير الراغبة في السلام هي شكوك في محلها.
في أعقاب ذلك، التقى كيري نتنياهو على هامش مؤتمر دافوس، واقترح تجديد المساعي بخصوص سلام الشرق الأوسط، وعرض عليه خطة للسلام تقوم على مبادئ عرفت "بمبادئ كيري"، مقترحًا عقد لقاء قمة يجمعه مع العاهل الأردني عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ويذكر كيري أنه حصل على إشارات إيجابية من المملكة العربية السعودية، التي رأت أن هذه الخطوات تماثل طرحها الذي عبرت عنه مبادرة السلام العربية في التطبيع مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وكذلك عبرت دولة الإمارات العربية المتحدة لجون كيري عن دعمها هذه الجهود. واعتقد كيرى أن رغبة الدول الخليجية، إضافة لمصر والأردن، في الدفع قدمًا تجاه إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، يعد حدثا مؤثرا في هذه الفترة التاريخية العصيبة من تاريخ الشرق الأوسط.
واجتمع كيري مع رئيس الوزراء الإسرائيلي والملك الأردني والرئيس المصري، وغاب عباس، وذلك قبل نهاية يناير/كانون الثاني 2016، بمدينة العقبة الأردنية، واتفق الجميع على سرية اللقاء وعدم التحدث بشأنه علنا. وتحمّس كيري لاستعادة دول عربية مؤثرة دعم عملية التفاوض الجديدة، والدفع بالفلسطينيين للتوقيع على اتفاق حل نهائي.
وزاد من حماس كيري ما أكدته الأردن ومصر من استعدادهما البحث في الترتيبات الأمنية المستقبلية في إطار حل الدولتين، واستعداد السعودية للتطبيع أيضًا. إلا أن كيري يذكر أن المفاجأة كانت في موقف نتنياهو، الذي تشدد وقال لجون كيري "إن شعب إسرائيل ليس مستعدًا للموافقة على هذه المبادئ.. ولن يكون الأمن الإسرائيلي في يد مصر أو الأردن"، ونقل عنه قوله: "نحن نحفظ أمن الأردن وأمن مصر. وليس العكس".