إن أكثر ما يلفت الانتباه هو الكيفيّة التي يتحرّك بها أحدنا في الشارع، متنقلاً من حيّ إلى آخر. أحاسيسنا التي تتشكل أثناء هذه البرهة القصيرة، ربما، هي التي تكوّن صلب علاقتنا مع المدينة. التنقّل هو أهمّ علاقة لسكان المدن مع شوارعها وساحاتها ومبانيها ومكاتبها. وهذا الفعل اليوميّ يصاحب الثياب التي نرتديها، البناطيل خصوصاً، حيث وقع خطواتنا وآثار أقدامنا، التي تحدِّد أو تحرّر، بدورها، من قدرتنا على السير.
عيني أيضاً تتنقّل، إنها تقسم المدينة إلى نصفين، واحد في الأعلى وآخر في الأسفل. في الأعلى ثمة حدود مفتوحة ومساحات فارغة، ثمة هواء لا يحدّه شيء، وفي الأسفل ثمة مساحات مضغوطة. الناس الذين يقضون معظم وقتهم في القسم العلوي، كما لو كانوا هاربين من القسم السفلي، يبدون أكثر حرية، يبدون في زمن آخر.
القسم الأوّل يتغيّر حسب حركة البناء، رافعات ضخمة، كل يوم، تضيف كتلاً جديدة إلى المدينة، وعمّال يرتفعون مع ارتفاع المباني الحديثة. ها هنا نوع آخر من التنقل، هو التنقل العمودي الذي يضيف إلى المدينة حيّزاً كان فارغاً قبله. عمل العمّال هو الحركة التي ستتحوّل إلى مبنى ثابت. عمل العمال هؤلاء هو الحركة التي ترسّخ مكاناً جديداً داخل فضاء مكان سابق. خطورة عملهم تكاد لا تؤثر على حرية تحركهم. يبدون مرتاحين في ثيابهم، وهي تطيعهم، وتكاد تكون، جزءاً من أجسادهم.
القسم الثاني من المدينة يشهد ازدحاماً يومياً، راكبو السيارات يغدون جزءاً منها، السيارات تحبسهم رغم أنها تنقلهم بسرعة. البناطيل الضيقة التي يرتديها معظم شبان وشابات الجيل الجديد تحدّ من حركتهم. تقسم البناطيل الجسد تقسيماً عمودياً كما تقسم حركة البناء جسد المدينة.
النصف السفلي من الجسد يقابل القسم السفلي من المدينة، الذي تحتكره البناطيل الضيقة والسيارات السريعة. النصف العلوي من الجسد، حيث العين التي لا شيء يحدّ من مدار رؤيتها على النظر والمراقبة، هو القسم العلوي من المدينة، حيث العمال يرفعون الطوابق واحداً إثر آخر.
معظم العمال، حينما ينهون أعمالهم، يعودون إلى القسم السفلي، أجسادهم المتعبة ترتاح الآن، وهي تأخذهم، غالباً مشياً، إلى غرفهم حيث يسكنون. لم أر عاملاً يرتدي بنطالاً ضيقاً، ونادراً ما تجده يركب سيارة أجرة. حتى وهم يتحركون في القسم السفلي يبقون في الأعلى، ذلك أن نزولهم لا يلغي شيئاً من مكانتهم التي يفرضها عليهم العمل ومقاسات الثياب التي يرتدونها.
المدينة التي أراها وأتنقل ضمنها، تبدو راضخة لسيارات سريعة وبناطيل ضيقة. رغبة الأجيال الشابة في اختصار الوقت، حركة ولبساً، تدفعهم إلى أن يسحبوا أنفسهم إلى مساحات ضيقة، سواء، داخل سيارة سريعة، أو داخل بنطال ضيق. هنا ذروة السباق مع الوقت، رهان على الحاضر السائل، حيث تتحوّل الساعات إلى بناطيل تمسك بالجسد، وتحمله السيارات التي تقطع المكان، فيبدو أكثر تقلّصاً وأبعد من العين.