ما زال المدنيون في سيناء يقعون ضحيّة الحرب على الإرهاب التي تشنّها القوات المصرية في مناطقهم، حيث ينشط تنظيم ولاية سيناء وإن بوتيرة منخفضة اليوم.
لم تكن عائلة عايش في قرية الجورة التابعة للشيخ زويد بمحافظة شمال سيناء تدري أنّ قذيفة أطلقها الجيش المصري سوف تستهدف مائدة إفطارها قبل وضع الطعام، فتقتل أفراداً منها وتجرح آخرين بعد سقوط المنزل على رؤوسهم، فيما لم يسلم الجيران كذلك من الإصابة. هكذا حلّ يوم الإثنين الماضي أسودَ على تلك القرية التي شهدت مأساة جديدة من مآسي مدنيّي سيناء المتكررة منذ ستّة أعوام.
تفيد مصادر قبلية "العربي الجديد" بأنّ "قصفاً مدفعياً أرضياً وجوياً استهدف مناطق جنوب مدينة الشيخ زويد مساء الإثنين، قبيل موعد الإفطار، لتسقط إحدى القذائف على منزل لعائلة عايش (أبو خلف) في قرية الجورة، ما أدّى إلى مقتل عدد من أفراد الأسرة وإصابة آخرين بجروح". تضيف تلك المصادر أنّه "في خلال محاولة الجيران وأفراد آخرين من العائلة الخروج من المكان بعد سقوط القذيفة، باغتهم صاروخ أطلقه الطيران الحربي، فارتفع عدد القتلى والجرحى ونُقِل الجميع إلى مستشفى الشيخ زويد ثمّ إلى مستشفى العريش العام. وتشير المصادر القبلية نفسها إلى أنّ "عائلة عايش وعائلة أبو قاسم وبعض عائلات أخرى هي كل من تبقى في قرية الجورة، بعد إجبار سكانها على النزوح في الأعوام الماضية، وذلك من خلال التضييق عليهم من قبل قوات الجيش وقصف المنطقة. لكنّ تلك العائلات أصرّت على البقاء في قريتها".
من جهتها، تفيد مصادر طبية في مستشفى العريش العام "العربي الجديد" بأنّ القتلى الذين سقطوا في قرية الجورة هم محمود خلف حسن عايش (21 عاماً) وخالد جبر حسن عايش (22 عاماً) وحسام سليمان أبو قاسم (37 عاماً) وشخص رابع مجهول الهوية. أمّا المصابون فهم محمد عايش محمد عايش (28 عاماً) وماجد ماهر محمد عايش (25 عاماً) وأحمد مرعي محمد عايش (12 عاماً) ومصطفى عيد حسن عايش (18 عاماً) وعيد حسن عايش (43 عاماً) وخلف حسن عايش (50 عاماً) وزايد حسن عايش (42 عاماً) وأحمد محسن حسين سلمي (11 عاماً). وتلفت المصادر الطبية إلى أنّ خمسة من هؤلاء المصابين بجروح خضعوا إلى عمليات جراحية لضمان بقائهم على قيد الحياة.
في السياق، يقول إبراهيم المنيعي، وهو واحد من أبرز مشايخ سيناء، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ما حدث بحقّ المدنيين في قرية الجورة جريمة لا يمكن السكوت عنها، ولا بدّ من معالجة ما نتج عن ذلك من أضرار بصورة عاجلة، والاعتذار لعائلات الضحايا وتعويضهم عمّا جرى، مع رفض وصف ما جرى بأنّه خطأ، نظراً إلى تكرار مثل تلك الحوادث في سيناء عشرات المرّات على مدى الأعوام الستّة الماضية. يضيف أنّ الأمر "يستدعي التزاماً حقيقياً من قبل قوات الجيش لعدم استهداف المدنيين، وهذا لن يكون في ظلّ السكوت الحاصل بين وجهاء سيناء ومشايخها. وإذا بقيت الحال على ما هي، فإنّ ثمّة إمكانية لتكرار مجزرة الجورة في وقت لاحق".
ويتابع المنيعي أنّ "قوات الجيش ارتكبت جرائم عدّة بحقّ المدنيين، خصوصاً من خلال القصف الجوي والمدفعي والرصاص العشوائي، في مدينتَي رفح والشيخ زويد، وراح ضحيّتها عشرات المواطنين، من بينهم نساء وأطفال، في حين كان يوصف بعض من تلك الجرائم كحوادث وقعت عن طريق الخطأ، على الرغم من وضوح الأهداف المدنية ومعرفة العسكريين بوجود مدنيين في المنازل أو المناطق المستهدفة". ويؤكد المنيعي أنّ ذلك "يشير إلى حالة من الاستهتار في التعامل مع المدنيين في سيناء، في ظل غياب أيّ متابعة ورقابة على عمل الجيش، وكذلك غياب المحاسبة بحقّ المسؤولين عن قتل المدنيين. وهذا الأمر يستدعى وقفة من أهالي سيناء ورموزها في مواجهة هذا الاستهتار، قبل وقوع مزيد من الجرائم في وقت تستمر فيه العمليات العسكرية".
وكانت حادثة الجورة قد أتت بالتزامن مع تقرير أصدرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" الثلاثاء الماضي، أكّدت فيه أنّ قوات الأمن المصرية ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق بحقّ المدنيين في شبه جزيرة سيناء، بعضها يصل إلى حدّ جرائم الحرب، وقد حثّت المنظمة الدول الداعمة على وقف المساعدات العسكرية التي تقدّمها لمصر. كذلك اتّهم تقرير المنظمة قوات الأمن بتنفيذ اعتقالات تعسفية شملت أحداثاً، والوقوف وراء اختفاء أشخاص وتعذيب آخرين وقتل في خارج نطاق القضاء، فضلاً عن العقاب الجماعي وعمليات الإخلاء القسري، من دون أن يصدر أيّ ردّ من الحكومة المصرية.
وأوضحت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، ومقرّها نيويورك، أنّ تقريرها المؤلّف من 134 صفحة يغطّي الفترة الممتدة من عام 2016 إلى عام 2018 ويستند إلى مقابلات مع 54 من سكان شمال سيناء ومع مسؤولين حكوميين وعسكريين سابقين، بالإضافة إلى بيانات رسمية وصور بالأقمار الصناعية. أضافت المنظمة أنّها وثّقت ما وصفته بأنّه 50 حالة اعتقال تعسّفي لسكان، من بينها 39 حالة احتجاز في حبس انفرادي بمكان غير معلوم. كذلك وثّقت في تقريرها 14 حالة قتل لمحتجزين في خارج نطاق القضاء، من خلال استخدام أساليب تشبه ما سبق أن ورد في تحقيق أعدّته وكالة "رويترز" ونشرته في إبريل/ نيسان الماضي. وتابعت المنظمة أنّ عشرات الآلاف من سكان شمال سيناء الذين يُقدّر عددهم بنصف مليون نسمة، أُجبروا على ترك ديارهم أو فرّوا منها فيما ألقي القبض على آلاف واحتجز مئات سراً. وفي سياق متصل، وثّقت "هيومن رايتس ووتش" انتهاكات ارتكبها تنظيم "ولاية سيناء"، الفرع المحلي لتنظيم "داعش"، موضحة أنّه هاجم مدنيين وخطف خصوماً وعذّبهم وقطع رؤوسهم.
من جهة أخرى، تفيد بيانات معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، وهو مؤسسة لا ربحية أميركية، بأنّ السلطات المصرية احتجزت ما يربو على 12 ألف شخص في محافظة شمال سيناء، في حين قُتل ما لا يقلّ عن 3076 متشدداً مشتبهاً فيهم و1226 من عناصر الجيش المصري والشرطة المصرية هناك، وذلك في الفترة الممتدة ما بين عام 2014 وعام 2018.
تجدر الإشارة إلى أنّ الجيش المصري ينفّذ عملية عسكرية واسعة النطاق منذ فبراير/ شباط من عام 2018 على محافظة شمال سيناء، بهدف إحكام السيطرة عليها، عقب الانتشار الكبير لتنظيم "ولاية سيناء" في كل مدن المحافظة وشنّه مئات الهجمات ضد قوات الجيش والشرطة، من دون القدرة على كبح تلك الهجمات. يُذكر أنّ القوى العسكرية التي حُشدت في المحافظة والقصف الجوي الدائم، كان لهما أثر كبير في إعادة السيطرة الأمنية على المحافظة وإن بصورة نسبية، مع التقليل من حجم الخسائر في صفوف الجيش والشرطة بعد انخفاض عدد هجمات التنظيم.